عندما يروي عدنان الشواشي تفاصيل “الرحلة” ويقدم دروسا في الفن والحياة…

 أمل الصامت –

وكأن كل شيء أبى إلا أن يكون عيد الجمهورية لهذه السنة استثنائيا، فحتى مسرح قرطاج لم يشهد حفلا فنيا بامتياز مثل الليلة التي سبقت عيد الجمهورية الثاني والستين، والتي اعتلى فيها الفنان عدنان الشواشي الركح رفقة فرقة الوطن العربي للموسيقى بقيادة الموسيقار عبد الرحمان العيادي والفرقة الوطنية للفنون الشعبية و40 من أطفال كورال البحيرة.. حفل أعاد إلى المسرح الروماني بريقه بكل ما للكلمة من معنى. 

بعد أكثر من 20 سنة غيابا عن ركح قرطاج، عاد عدنان الشواشي ليروي "رحلة فنان".. رحلة مهما حملت في طياتها متاعب ومشاق ألقت بصاحبها تحت سماء حنبعل وعليسة المغشاة بالنجوم المتلئلئة فانضافت إليها نجمة عنوانها "الرقي".. لم تكن المدارج ممتلئة كما هو حالها في بقية العروض التجارية بامتياز ولكن الجمهور الذي حضر بأعداد محترمة تابع بخشوع قصة الرحلة فغاص في تفاصيلها.

لا شك ان عدنان الشواشي ذلك الشاب الذي لمع نجمه في أوائل السبعينات أمسى يحمل على وجهه بعض التجاعيد وأضحى الميكروفون يعيي يديه فيجعلهما ترتعشان، ولكن الزمن يوم 24 جويلية 2019، لم ينل من صوته العذب الرصين شيئا، بل وجعل جسمه على غير العادة يتمايل على وقع تصفيق الحاضرين وتصاعد وتيرة الموسيقى في بعض ما أداه.

الأغاني التي اختارها الشواشي كانت مدروسة لا شك وحتى ترتيبها لم يكن اعتباطيا، فبين الطربي والإيقاعي كان النسق تصاعديا بطريقة لا يستطيع رسمها إلا مهندس بارع في إدارة الركح، ولعل ما ساعده في ذلك مخرج العرض حسام الساحلي الذي ابدع في خلق جو فرجوي حتى يستمتع المتلقي بالصوت واللحن والصورة على حد سواء.

ساعتان على الركح اختزل فيهما عدنان الشواشي رحلة إن هي انطلقت منذ ما يزيد عن الثلاثين عاما فدرب الفنان فيها لم ينته.. حكايا رحلة استهلها بـ"نجوى" لرب ما خاب عبد سأله، وكأنه يشكر إلاهه على ما حباه به من محبة جمهور خاطبه بـ"أنا أترجاك تسعدني معاك" فأجابه بمثل ما ترجاه.

كان الجمهور إلى حد تلك اللحظة منتشيا يتمايل على وقع اللحن والكلمات، عندما تسترق النظر إلى أحد ابناء جيل الشواشي من بينه، تجده مغمض العينين وكأن الحاضر يحيله إلى ماض جميل أو يعبر به إلى ذكريات نثر عليها وقع الحياة الصاخب من الغبار الكثير، بل حتى من حضر من أبناء هذا الجيل كان يحاول تقفي أثر الكلمات والمسك بمعانيها، إلى أن انضاف إلى المشهد أطفال كورال البحيرة وظهر على الشاشة الخلفية عنوان الأغنية الموالية "أحكيلي عليها".

أغنية لم تكد تبدأ حتى رجت لها المدارج، وتلك الطفلة الصغيرة التي كانت في صورة بـ"الأبيض والأسود" اصبحت اليوم امرأة ناضجة وتستطيع اعتلاء الركح ليراها الجميع بالألوان، كل ألوان المحبة والاحترام والإكبار، إن كان يمكن إسناد هذه الخصال ألوانا، سنية مبارك التي سألت أباها عن "الدنيا واللي فيها" في سن الـ12 ها هي تعيد السؤال اليوم بطلب أنيق جعله ينزل حيث كانت تتابعه أسفل الركح ليجعلها تعتليه، في حركة نالت استحسان الجميع…

ومن "علاش يا قلبي" إلى "عيبك" ثم "ريحان" لم يفت عدنان الشواشي أن يكرّم اثنين من أساتذته "بابا منور زروق" الذي علمه عزف العود والكامنجا و"سيدي الهادي المقراني" الذي علمه الموشحات ومخارج الحروف وكيفية التنفس عند الغناء، قبل أن يحتفي بعيد الجمهورية بطريقة مختلفة، ترك فيها الركح إلى فنانة قد لا تعرفها الحفلات الخاصة والبرامج التلفزية الترفيهية ولكنها تستحق لقب مطربة عن جدارة، وهي الحاصلة على الدكتوراه في الموسيقى الفنانة رحاب الصغير، لتؤدي قصيدا بعنوان "طموح" من كلمات منور صمادح وألحان الموسيقار عبد الرحمان العيادي.

وبصوتها الذي تقشعر لسماعه الأبدان، رددت بعذوبة وشراسة في آن "طموح يأجج فينا الدماء ويدفعنا للعلا قدما.. ونرفع تونس بين الشعوب".. ولا أظن أن تونس كانت حديثا يوما للشعوب مثلما كانت فيه كل تلك الأيام الموالية لهذا الحفل رغم أن المصاب كان جللا بوفاة رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي، إلا أنه كشف عن وجه استثنائي رفع فعلا تونس بين كل الشعوب لمرتبة ربما ليس هو المجال لوصف مدى علوها.

إطلالة هذه الفنانة الاكتشاف لجمهور مهرجان قرطاج لم تكن عابرة أو قصيرة كما خيل للبعض في البداية إذ رافقت بطل العرض ومنظم "الرحلة" عدنان الشواشي في أداء إحدى اغانيه الشهيرة "شغلتني" من كلمات وألحان الفنان القدير رضا القلعي.

أجواء طربية كبيرة ونوستالجيا عالية لزمن الفن الجميل، عاشها جمهور قرطاج بين الكلمة واللحن والفرجة والتدخلات الراقية التي كان يقوم بها الشواشي مخاطبا محبيه بين الفينة والأخرى، ختمها بأجواء تجمع بين الصخب والأصالة.. صخب فرضه إيقاع "يا ام العيون السود" وأصالة طبعتها طلة شابات وشباب الفرقة الوطنية للفنون الشعبية وخطواتهم المتناسقة وازيائهم الجميل تصميمها، في لوحة طالب الجمهور بتكرارها فاستجاب فنانهم ولم يبخل عليهم بتأديتها مرة ثانية.

وإن لم يفت الشواشي أداء أغنيته الشهيرة "كبرت والله كبرت" في عرض أراد به قص رحلته على الملإ، إلا انه إذا كان كبيرا فعلا فهو كبير بأعماله وأخلاقه وحرفيته وحبه للفن الذي يؤمن به ليجسد بذلك مقولة الكاتب الأمريكي "كورت فونيجت": "الفن ليس وسيلة لكسب العيش فقط، بل إنهُ الطريقة الإنسانية لجعل الحياة أكثر إحتمالاً".. وعدنان الشواشي أعطى لكل من تناساه طيلة السنوات الماضية من مسؤولين وقائمين على تنظيم المهرجانات الوطنية الكبرى، أن نار المبدع فيه مازالت حية و"مازال عندو غرام ومازال موش مسلم". 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.