18
يسري اللواتي-
في أعقاب القرن الثامن ميلادي ترجم المفكر المخضرم ابن المقفع الكتاب ذائع الصيت "كليلة ودمنة"، ليتفاعل مع عدة ظواهر اجتماعية وسياسية انتشرت خلال العصر العباسي عبر عدد من القصص التي ترويها ألسنة الحيوانات. وفي أحد أبواب الكتاب الخمسة عشر روى الكاتب حكاية مثيرة كانت بطلتها "الحمامة المطوقة".
في هذا الباب سرد ابن المقفع حكاية أحد الصيادين الذي نصب شبكته ونثر عليها الحب وانتظر قليلا الى أن لمحت حمامة تقود سربا الحب "فعميت عن الشرك فوقعن على الحب يلتقطنه فعلقن في الشبكة كلهن؛ وأقبل الصياد فرحا مسرورا" فما كان على الحمامة الا أن تستخدم حيلة للنجاة هي وصاحباتها من الشرك.
الى حد الآن قد يتبادر في أذهان القارئ سؤال بخصوص دواعي استدعاء هذه القصة، لكن وبالعودة الى الزمن الحاضر، قد تحاكي قصة "الحمامة المطوقة" في جانب منها، قصة "العصفور النادر" لشيخ النهضة أو ربما صيادها راشد الغنوشي.
منذ أيام قليلة طار الغنوشي رفقة عدد من قيادات النهضة في زيارة مطولة الى فرنسا، وقال خلال حوار تلفزي بث على قناة "فرانس 24"، إن حزبه "يبحث عن عصفور نادر" لامكانية ترشيحه أو دعمه خلال الانتخابات الرئاسية التي ستجرى بعد أشهر قليلة. ولمن شاهد الحوار فقد نطق الغنوشي باجابته وأرفقها بضحكة خفيفة هدف خلالها الى ابرازها في شكل مزحة ظاهرها هزل وباطن جد.
قد تحيلنا وقائع حكاية "الحمامة المطوقة" الى استحضار بديهي لتشابه واضح بين صائد الحمامة وأصحابها والغنوشي صائد "العصفور النادر" ، الذي ألقى بتصريح وينتظر أن يوقع الكثيرين ممن قد يستهويهم ويغريهم "حَب" زعيم النهضة المؤبد. وطبعا سيلاقي هذا الكرم تنافسا شديدا ممن يبتغون أصوات النهضويين الكثيرة.
في كل مرة يُسأل فيها الغنوشي عن شكل مشاركة الحركة في الانتخابات الرئاسية، تدفع اجاباته تلقائيا بجدال متكرر داخل أوساط الفاعلين في المشهد السياسي حول هوية مرشحهم أو من تدعمه لرئاسة قصر قرطاج وهنا يُستحضر تصريحه الذي قال فيه إن رئيس الحكومة يوسف الشاهد "شاب ويمكن أن يكون مرشح حزبه للانتخابات الرئاسية"، ليصدر بعد ذلك بلاغ ينفي قول رئيس الحركة الذي أجمعت على نشره أكثر من وسيلة اعلام مشهود لها بالمصداقية.
كان هذا التصريح أولى حبات الغنوشي التي ألقاها لمن يبتغي عطف النهضة، ولكنه لم يكن الأخير لن يكون، فمن أشهروا ترشحهم للرئاسية كثر وأغلبهم يعلمون بأن حظوظهم في بلوغ قصر قرطاج مهمة صعبة جدا أمام منافس قد تسنده أحزاب لها قواعد صلبة كحزب النهضة الذي خير في استحقاقات سابقة التهرب من كرسي رئاسة الجمهورية نحو القصبة و باردو. لذلك يتوقع أن يسيل عرض النهضة لعاب العديد من الشخصيات المترشحة وربما الأحزاب.
تدرك قيادات النهضة جيدا أن المشهد السياسي في البلاد مُفرغ تقريبا منذ سنة 2014، من الزعامات والقيادات السياسية القادرة على قلب المعادلة أثناء الانتخابات القادمة، عدا بعض الأسماء التي ينتمي أغلبها الى قطاعات أكاديمية ونخبوية وكسبت تعاطفا نسبيا لا يدفع في النهاية الى كرسي قرطاج، لذلك فإنها تميل أكثر الى دفع شخصية "نادرة" بصفات مختلفة تجذب الناخب النهضوي وغيره.
ومما لا شك فيه أن الحزب استعاض كثيرا من درس الانتخابات البلدية، حينما نال المستقلون الذين ترشحوا اما ضمن قائماتها أو قائمات منافسة نصيبا محترما من المقاعد بالمجالس البلدية، لذلك يبدو أن "العصفور النادر" للشيخ الغنوشي سيكون من المستقلين، وهو خيار محتمل قد يراهن عليه الحزب في فترات متقدمة من موعد اجراء الانتخابات.
ويبدو من خلال التجارب الانتخابية السابقة أن حزب النهضة يتحاشى أن يحشر نفسه في صراعات التنافس على الرئاسة بدءا من سنة انتخابات 2011 وانتخابات 2014، أين تركت حرية الاختيار لمنخرطيها، لتركز جهودها أكثر على نيل أكثر مقاعد داخل البرلمان ورئاسة الحكومة، لذلك يبدو خيار دعم شخصية من خارج الحزب الأقرب عمليا.
علاوة على ذلك فان اكراهات اللعبة السياسية، قد تفرض على مرشحين قبول عرض النهضة ولو على مضض خاصة وأنه الحزب الوحيد تقريبا القادر على حشد كتلة تصويت متماسكة خلف مرشح كما حصل للمرزوقي في الانتخابات الأخيرة، ولن يكون هذا الدعم المفترض دون خدمة أكيدة يجب أن يقدمها المترشح في صورة فوزه.
لا يخفى على أحد أن النهضة تتحاشى دوما التشهير في وقت مبكر بتفاصيل مشاركتها في الانتخابات سواء تشريعية كانت أم رئاسية وتخير سبيل المراقبة والانتظار، ولا بد أن أي دعم محتمل ستقدمه النهضة لـ "عصفورها النادر" سيكون بمقابل أقله التطبيع والتبعية مع توجهات الحركة في جل مواقفها ورؤاها فيكون بذلك قد حشر داخل قفص رضي مسبقا بأن يكون حبيسه بملئ ارادته.