عرض ولّادة للبنى نعمان: تراتيل أنثى من ماء

 يسرى الشيخاوي- 

 

الولادة فعل مقدّس تتخذ معه الحياة مغزى وأفقا جديدا، يرقص  فيه الموت على إيقاع الترقب والانتظار حتّى يغمى عليه مع صرخات الوليد الأولى، صرخات تتمطّط معها تضاريس الأمل وتتشظّى على وقعها بقايا الوجع.

 

صرخات وابتسامات تتشابك وتتداخل ساعة الولادة، هذا الفعل المقترن بالأنثى التي تنتج حيوات مختلفة سواء تعلّق الأمر بولادة مادية أو معنوية تظلّ الأنثى ولّادة حلم وأمل وخلّاقة حياة، لذلك اخترت الفنانة لبنى نعمان اسم "ولّادة" لعرضها المشارك في المسابقة الرسمية لأيام قرطاج الموسيقية.

 

بفستان زينته لمسة تقليدية أمازيغية، زادته أقمصة العازفين البيضاء ألقا، آذنت لبنى نعمان بانطلاق الرحلة في أعماق الذاكرة الشفوية، تستلهم منها حكايا النسوة وتستحضر كلمات حزينة ترقص على وقعها لتسري في الأرجاء نشوة لا تخلو من الشجن.

 

حكايات قادمة من الماضي، أساسها تفاصيل فارقة في حياة نساء ذقن لوعة الحب والفراق، قصص انتهت في الماضي ولكنّك بمجرّد أن تسمع لينى نعمان تردّد الأغاني التي ترويها حتّى يتردّد صدى سؤال يسكن داخلك، لماذا كل هذا الوجع، هل الأنثى خليلته؟

 

فلسفة المشروع الموسيقي تقوم على على النبش في الذاكرة الموسيقية الشفوية، تلك الذاكرة التي تحملها نساء في قلوبهن وأصواتهن، وتتعدّاه إلى البحث في معانيها بل وإعادة إنتاج معان جديدة لها عبر تلك الروح التي بعثتها لبنى نعملن على الركح، روح متمرّدة ورقيقة في ذات الآن، تمتص الوجع وتصيّره ألحانا وإيقاعات ترقص على إيقاعها.

 

رسائل نساء من أزمنة اخرى، نساء احببن وتألمن وثملن بلوعة البين ونسجن من خيوط الوجع كلمات هزت خصورهن في الاحتفالات، رسمت لبنة نعمان حوفها بصوتها وحركاتها وصمتها المفعم بالأحاديث.

 

"رقيّة"، و"الريم عرضني" و"يا وشام" و"يما وجعتوها" و"بتّي سهرانة"، أغاني من عمق التراث التونسي، جالت فيها لبنى نعمان بإحساسها وصوتها في معاني الكلمة وعمق الاحساس الذي يتولّد من الرغبة في تجاوز الألم.

 

هي ليست مجرّد أغاني مصحوبة بإيقاع موسيقي، هي صرخات ألم وانعتاق أطلقتها نساء عبّرن عن دواخلهن بطريقتهن، وكانت بداية الصرخة بكلمات اغنية ردّدتها دون موسيقى  إمرأة يشي صوتها بتقدّمها في السن، قبل أن تنبعث كلمات أغنية " سعدي بها" من حنجرة لبنى نعمان عذبة وديعة، وكأن النوم يغشى صوتها تزداد الكلمات نعومة فيخيّل إليك في لحظة ما أن التهويدة أتت أكلها وأن الطفلة الصغيرة استسلمت للنوم.

 

 وبعد "التهويدة" التي انبعثت فيها الكلمات دون موسيقى، انطلقت الرحلة في عالم الموسيقى الذي وشّحته لبنى نعمان بصوتها البسيط بعمق، وروت بالجمل الموسيقية حكايات نساء عبرن كل الحدود بأصواتهن، نساء ثرن على أنفسهن وعلى القبلية وعلى عادات بالية وانتصرن لأنفسهن بكلمات لا تعترف بحد ولا قيد.

 

ولأنّ الفن أخو الولادة، لا يعترف كلاهما بالموت فإنّ لبنى نعمان لم تنس لطفي جرمانة الفنان التونسي الذي غادر جسده هذا العالم لكن روحه ترفرف مع صدى كلمات أغانيه، وأهدت لروحه "بتي سهرانة" التي حفظتها عنه.

 

أغان تراثية، وأغنية "الوشام" التي كتب كلماتها المسرحي والسينمائي مروان المؤدّب، وأغاني "قمح" و"شوية وقت" و"حواء" التي ألف المخرج والدراماتورج وحيد العجمي كلماتها، كلها كلمات تتغنّى كلها بالمرأة، وإن كانت بعض كلماتها ترشح وجعا فإنّ خصلات شعر لبنى نعمان المتناثرة وهي ترقص وكأنّها تتحرّر من ذلك الوجع الساكن في قصص الأغنيات، تبعث على الأمل وعلى الفرح وعلى تمثّل الحزن كانطلاقة لحياة جديدة،وعلى الركح كانت صوت أنثى من ماء، أنثى تجعل كل شيئ حولها حيّا وتغرق من يحاول خنقها، ردّدت تراتيلها بخشوع .

 

ومن شاهد العرض الأول لولادة، سيلاحظ أن لبنى نعمان كانت حريصة على تقديم مشروعها الموسيقي في حلّة جديدة، تناغمت فيها المشهدية على الركح مع معنى العرض، وكان للحلم الذي تغنّى بالمرأة والوطن بقية كشفت عن بعضها في أيام قرطاج الموسيقية على أن يتواصل البحث والعمل الموسيقي كما وعدت.

 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.