عرض فيلم “على هذه الأرض” في قرية المبروكة : “هنا نصنع الاطفال جيلا ثائرا وراء جيل”

يسرى الشيخاوي-
 
"هنا نصنع الأطفال جيلا ثائرا وراء جيل" يقول شاعر المقاومة توفيق زيادة في قصيدة "هنا باقون"، ويوثق المخرج الشاب عبد الله يحي كلماته في الفيلم الوثائقي "على هذه الأرض" الذي عرض في ريف المبروكة التابع لولاية سيدي بوزيد ضمن تظاهرة "سينما الريف".
 
متسلحا بالكاميرا وهاجس الإنسانية والمواطنة وشغف الاختلاف والحياد عن السائد والنمطي، يقارع عبد الله يحي التنميط والاستنساخ، يوثق للصمود والمقاومة ويعلي راية التمرد والثورة من أجل الحرية والكرامة، من أجل غد أفضل، غد تجد فيه المطالب المشروعة طريقها إلى مكاتب المسؤولين".
 
ونحن في طريقنا لمشاهدة الفيلم، مررنا على خيمة المعتصمين من المنتدبين غير المباشرين في شركة فسفاط المكناسي، حركة احتجاجية تزامنت مع حركات أخرى في الرڨاب ومنزل بوزيان وجبنيانة والقصرين، وكأن الواقع يخبرنا أن تعبيرات الغضب لم تنته وأن الأنفاس الثورية لا تخمد وإن سرى فيها الخدر أحيانا.
 
على هذه الأرض تستوي الحياة بالموت
 
"على هذه الأرض" يوثق للاحتجاجات التي شهدتها قرية العمران التابعة لمنزل بوزيان من ولاية سيدي بوزيد،احتجاجات وإضراب جوع جابهتما السلطة بسلسلة من الاعتقالات في صفوف المطالبين ب"الشغل" أحد الشعارات الذي دوى صداها في الشوارع ذات ثورة.
 
ست سنوات مرت على تصوير الفيلم وشرارة الغضب لا تنطفئ ومازال المواطن يتعرى ويجوع ومازال يتلو نشيد الحياة، على هذه الأرض تستوي الحياة بالموت، ويستوي النسيان بالتمرد، ويستوي الوجع بالأمل، على هذه الأرض تستوي كل المتناقضات.
 
إلى هذه الأرض تحملنا كاميرا عبد يحي إلى قرية بليت حيطان منازلها لكنها ما تزال صامدة تقاوم التهميش، وتستوعب الغضب الساكن في دواخل المهمشين، طريق ممتدة تطالع المشاهد قبل الوصول إلى "العمران" العامرة بإرادة أهلها وصلابتهم، ربما هي تعبير على أن الطريق لا ينقطع دون الحقوق.
 
 وفي الفيلم يلامس المخرج  الوجع من العمق، لا يحاكيه بل يعريه وينأى به عن كل مساحيق التجميل، يقدم لك تفاصيل تؤلمك وقد تخلف لديك شعورا بالحنق  والنقمة على المنظومة كاملة، هنا البساطة تزين المكان المنسي كأحلام أهله، ملابس بسيطة وكلمات بسيطة يعبرون بها عن أحلام بسيطة جدا إذا ما قارناها بعمر من النسيان والتهميش، والبساطة التي تحاكي الحاجة في هذا المكان رافقتها فاقة تسكن في وجوه المسنين وتمتد بالوراثة جيلا بعد جيل.
 
 "هنا نصنع الاطفال جيلا ثائرا وراء جيل"
 
على هذه الأرض مواطنون خارج السياق، على هذه الأرض تنحر الإنسانية قربانا للسياسة، على هذه الأرض يقاوم المسنون حتى لا يتسلل اليأس إلى نفوس الأطفال، على هذه الأرض تتهاوى الأحلام قتلقفها أيادي نسوة من شاهدات على الثورة المسلحة، على هذه الأرض يهتف الكل "هنا نصنع الاطفال جيلا ثائرا وراء جيل"، رغم الحيف ورغم البؤس.
 
على هذه الأرض أصوات تتذكرها الدولة في الانتخابات وارقام تزين بها سجلات الولادات والوفايات، على هذه الأرض تكاد التربة تصرخ "أين الدائسين علي من هذه الحياة"، وانت تستمع إلى حمزة يتحدّث عن اعتقال والده الذي ينادي بمطالب بسيطة جدا "الخبز والشغل" لن يتبادر إلى ذهنك أنه طفل، فحمزة على درجة كبيرة من الوعي التي تجعله يشرح الواقع بمنطق تقف أمامه عاجزا على توصيف طلاقة لسانه وفصاحته.
 
هو طفل لا ذنب له سوى أنه جذر حي أبى إلا أن يتشبث في مكان جار عليه الماضي والحاضر وربما المستقبل، طفل يحلم رغم الجذب المحيط به، يفكر ويفكك شيفرات الواقع، طفل يتحدث عن العدالة الانتقالية ويصفها بالانتقامية، أي طفل هذا الذي يوصف الواقع بهذه الجرأة.
 
سيل من الأسئلة ترتسم على ملامح وجه حمزة ووجه سكان القرية المنسية ، أسئلة قد نتساءلها نحن الواقفون على خط التأمل، لما تنكر الدولة أبناءها في الجهات، لماذا لا يستوي أبناء المركز وابناء الهامش، ما هذا البون الشاسع بين هؤلاء وأولائك أين العدل وأين المساواة.
 
حينما يولد الأمل من خاصرة العدم
 
قاتلة هي صورة تلك العجوز التي خط الزمن تجاعيده على وشمها، موجعة نبرة صوتها وهي تتحدث عن حقوق بسيطة جدا، بسيطة جدّا، مؤلمة صورة ذلك المسن الذي يحث حفيده على الدراسة وسيلة للتحرر من سطوة العدم، نظرات الانكسار والتحدي ينقلها إلينا عبد الله يحيي متشابكة حد التماهي.
 
متساكنو قرية العمران رمت بهم الدولة على قارعة النسيان  حتى أن مقاوما حمل السلاح في وجه المستعمر تساهم في استقلال الوطن يقول بكل مرارة أنه لا يجد مكانا يؤويه ولكنه يقاوم العدم ولا  يساوم على كرامته، حينها فقط تتذكر أبيات قصيدة سميح قاسم في سوق البطالة "  ربما أخمد عريانا، وجائع.. يا عدو الشمس لكن لن أساوم وإلى آخر نبض في عروقي سأقاوم".
 
"على هذه الأرض" مراوحة بين صور الطبيعة والحراك الاجتماعي، احتجاجات واعتصامات أصحاب الشهائد المعطلين عن العمل، والشمس تطلّ من بين أغصان شجرة في قرية العمران وكأنها تخبرنا أنّ الامل لا يموت ويظل مشعا من بين تجاويف العدم، الأمل يتسلّل من بين كلمات طفل يحلم بأن يكون طبيبا يعالج أمراضا سمع عنها في قريته المنسية ويحلم أن يزور المجرّات، طفل يتلو على مسمع دولة صماّء " ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل".
 
نار تلتهم الحطب، كما تلتهم الدولة أبناءها وأحلامهم، تحلّق حولها اطفال ومسن يروي لهم أساطير الامل، نار تشع كما بريق الإرادة في عينهم، تتحوّل عنها الكاميرا وهي مستعرة كما الغضب في نفوس أهالي "العمران"، ولأنّ المضطهدين والمهمشين وحدهم من يخبرون أحاسيس الغضب والنقمة واليأس والامل المختنق بين العبرات المكتومة، فإنّ بعض اللقطات في الفيلم تجعل من المشاهد يتابع خطوات الشخصيات من خلال إطار يختلف تأويل باختلاف السياقات وزوايا النظر.
 
قد يربكك "على هذه الأرض" ويبعثر مشاعرك، فتتعانق الدمعة والابتسامة في وجهك، وتتناثر الأسئلة أمام ناظريك ولا تقوى على إيجاد أجوبة لها فتتجاهلها ولكنّها تظلّ تركض كما الطفل الذي صوره عبد الله يحي راكضا على خطى القطار وكأنّما يلاحق أحلامه في الأفق.
 
ولئن غاص فيلم عبد الله يحي في عمق وجع أهالي قرية العمران، الذين لم يطلبوا غير الشغل والكرامة، ونبش في بواطن الأمل، فإنّه جعلنا أمام مفارقة عجيبة، فنحن لا نعود بالذاكرة إلى الوراء ونحن نشاهد الفيلم، ذاكرتنا الجمعية توقفت عند سنة 2012، والوقائع تكرر نفسها سنة تلو سنة، ونحن على مشارف 2019 لم يتغير شيء باستثناء الأعوام التي انضافت إلى عمر الطفل حمزة، المطالب مازالت معلّقة على ناصية الانتظار، ومازال الجور والظلم يصنع من الأطفال ثوارا ومتمرّدين على الواقع.
 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.