عرض “ثنائي الضفتين”.. ترانيم الإنسانية في كاتدرائية العاصمة

  يسرى الشيخاوي- 

 
"أخوة" مقطوعة موسيقية لمجموعة خماسي أليف ختموا به عرضهم في أيام قرطاج الموسيقية، مقطوعة موسيقية عن الترابط والتلاحم والسماحة والتسامح، يرافقك صدى ألحانها إلى نمنتهى شارع الحبيب بورقيبة حيث ترابط الكاتدرائية في بهاء.
 
على امتداد السبيل المؤدّي إلى كاتدرائية مدينة تونس، ينتشر الامنيون على الضفتين ويتوافد عشّاق الموسيقى ليواكبوا عرض ثنائي الضفتين لعازف العود التونسي عبد الرؤوف الورتاني وعازف الأورغ الفرنسي باتريك فيلانويفا.
 
في الكنيسة، تسري مسحة من الروحانية والخشوع وتطالعك صور المسيح والعذراء أنّى ولّيت وجهك، سكينة وطمأنينة يغمرانك وانت تجول ببصرك بين الجدران والمقاعد الخشبية لتتعثر عينيك في كل مرّة بباقة من الورود، في الكنيسة تسقط حرب الاختلاف وينثر الربّ كثيرا من الحب.
 
للمقاعد الخشبية هنا أرواح، وهي التي أوت أجساد صلّت ّإلى ربّها بخشوع وتخفّفت من أعبائها وباحت بسرائرها، هنا تحتويك المقاعد الخشبية وتسمو بك إلى الأعلىّ، حيث يحض عبد الرؤوف الورتاتني عوده ويربّت بحنوّ على اوتاره فتغمر أنغامه أرجاء الكنيسة، ويسود الخشوع المكان.
 
البعض ضمّ يديه إلى بعضها البعض، والبعض الآخر استند على مرفقه وعانق كفه وجنتيه، وشخصت الأبصار إلى الأعلى، إلى الموسيقى "الأسمى" كما يراها ارسطو،  وقال العود والأورغ قولهما، وكانت الموسيقى أخت الإنسانية لا تفرّق بين ابنائها.
 
لقاء بين آلة العود وآلة الاورغ، لقاء بين ضفتين، بين الشمال والجنوب، لقاء بطعم الشغف، لقاء على قاعدة الإنسانية التي تجمع كل المختلفين وتستمدّ ثراءها من اختلافهم، لتشهد الكنيسة وأنفاس المصلين العابرين على مقاعدها على أنّ الموسيقى تنبع منها وإليها تعود.
 
شاعرية آلة العود وسحر الشمال الساكن بين أوتاره، وخشوع آلة الأورغ وروعة الجنوب الساكن بين مفاتيحه، صنعت ثنائية مبهجة تعانق شغاف القلب وتأسر الأرواح، ومن أنغام العود إلى أنغام الأورغ امتد جسر من الشمال إلى الجنوب وكانت الموسيقى سيّدة المدى.
 
ومن كنيسة  نوتردام مالاكوف بباريس إلى كنيسة القديس فانسان دي بول، كان المشروع الموسيقي "ثنائي الضفتين" امتدادا لتلك الفكرة التي ترى في الموسيقى لغة كونية قادرة على طمس الاختلافات والخلافات وتخطّي الحواجز المادية منها والمعنوية.
 
والمشروع الموسيقي الذي صدر في ألبوم غنائي في أفريل من سنة ثمانية عشر وألفين يضمّ أحد عشر مقطعا موسيقيا مستلهما في الآن ذاته من الموسيقى الأوروبية الكلاسيكية ومن تقاليد الموسيقى المسيحية للمشرق، لتكون الموسيقى المنبعة في أرجاء الكاتدرائية لحظة فاصلة يتماهى فيها عالمين بكل ما يحويانه من تناقضات.
 
معزوفات ذات ألحان أصليّة يطّوعها العازفان ويضفيان عليها مسحة من التجديد المتناسب مع مميزات العود والأورغ، ليتردّد في الكنيسة صدى ارتجالات تحاكي عشق العازفين للموسيقى والانسانية ليكون الثنائي باعثا لترانيم الإنسانية، ترانيم حاكتها الفنّانة علياء السلامي بحضور يتّسم بهدوء صارخ وإطلالة بسيطة وتعابير وجه عميقة لا تشبه إلا صوتها الذي يعانق السماء.
 
ولأنّ "الموسيقى توحّد كل الصفات يمكنها أن تمجدنا، أو تحرّرنا، أو ترهّبنا، أو تكسر أكثر القلوب قسوة؛ مع أرق نغماتها الحزينة لكن مهمتها الأساسية هي أن تقود أفكارنا إلى أشياء أسمى، أن نرتقي، بل أن نرتعد"، هكذا يرى نيتشه الموسيقى، وههي رؤية تلخّص بعضا من عرض "ثنائي الضفتين" في كاتدرائية مدينة تونس.

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.