15
يسرى الشيخاوي-
خشبة "التياترو" تغدو فضاء استيتيقيا ترسم "تينا" ملامحه وتتماهى معها متجاهلة كل الأطر التي شيّدها الناطقون باسم المجتمع أحيانا وباسم الرب كل حين، جسر بين الأرض والسماء تمدّه على انقاض الوصوم وفي "العبور" من عالم الإنسان إلى عالم الملائكة تحرق الوصم تلو الوصم وتجمع الرماد أكواما.
وعلى امتداد "ستيكس" تنثر الرماد فتبثّ بعضا من النور على وجه النهر المظلم، نهر في العالم السفلي في الميثولوجيا الإغريقية، يسيل سبع مرات حول عالم الاموات وتجري معه أحلام "تينا" لتنعتق وتكسر الأغلال والقيود.
لكن من هي "تينا"؟ ولما العبور من عالم الحياة إلى عالم الموت؟ ولما السفر إلى "برزخ" تتحرّر فيه من الوصايا والاحكام التي تسكت فيها صوت الحياة؟، أسئلة تجول بذهنك وأنت تشهد مسرحية عبور من إخراج منصف الزهروني.
مكان غامض عجائبي تأويلاته كثيرة ولكنّ الأكيد أنّ لا تنمّر فيه ولا وصوم ولا حدود تئد الحرّية، مكان تكون فيه انت على سجيتك عاريا من كل زيف متعفّفا عن كل كذب، مكان ينزع عنك كل الأردية إلا رداء الإنسانية مفتاح العبور إلى النعيم.
وفيما تحاول ان تتبيّن ملامح المكان، تطالعك الإجابات عن أسئلتك الأولى على إيقاع رقص "تينا" وغنائها واحتفائها بجسدها، جسد حرّ راقص ثائر ومتمرّد، جسد كما أردته "تينا" العابرة جنسيا، جسد عبرت إليه حينما صرخت في عروقها الأنثى الكامنة داخلها.
"تينا" نفضت عنها غبار الذكورة وتوشحت بتفاصيل الإناث وعبرت تاركة وراءها ماض سوداوي اسمه " محمّد ضياء"، سجن كان يأسر روحها ويكبح جنونها وتمرّدها، جسد لا يناسبها بل إنّه يقبر ذاتها بين تفاصيله.
حكايا كثيرة تتلوها "تينا" المؤمنة بنفسها على الخشبة وهي تنتقل من إطار إلى آخر وتهرب منه لتعانق الفضاء وترقص رقصات بعناوين كثيرة طغت عليها الحرية والثورة على كل أشكال الوصايا التي نثرها الآخر في طريقها.
المتعة والألم، الجسد والروح، الأنا والآخر، الحريّة والأسر، الأرض والسماء، الملائكة والشياطين، الأنا الأعلى والقانون، الوجود والعدم، النعيم والجحيم، ثنائيات تزيّن تفاصيل العرض المسرحي الذي يعرّي واقع العابرين جنسيا.
سبيل وعرة ترتسم معالمها على الركح كلّما أوغلت في التجربة الحسيّة الوجودية التي تحملك إليها الممثلة سنية الهذيلي وهي ترسم الكلمات بنظراتها وصوتها وسكناتها وحركاتها وايماءاتها وتقحمك فيها أمينة بن دوّة بصوت الملائكة التي تحرس "تينا" منذ ولادتها.
وبين الرغبة في التمرّد على جسدها وإرادة تحقيق هذه الرغبة، تتجلّى سراط حادة جدّا أدمت روح "تينا" قبل جسدها، وهي التي كانت عرضة لنعوت قاسية ووصوم اجتماعية قاتلة، نعوت تسمعها يوميا وانت تخوض نقاشات عقيمة عن الجسد والحرية تنتهي غالبا إلى قراءة دينية تحشرك في زاوية مظلمة.
وللعبور إلى الضفّة الاخرى من الحياة حيث يطابق الجسد الروح ويتناسب مع الزمان والمكان، يشدّ صوت الملائكة بيد "تينا" ويقاسمها تفاصيل حكاياها، حكايا تمتدّ من ولادة تينا إلى ذلك اليوم الذي قررت أن تقتل فيه الماضي كل الماضي وتتحرر من جسد لا يشبهها.
خيبات من عائلتها ومن المجتمع وويلات كثيرة وعذابات خاضتها "تينا" المستترة وراء جسد "محمّد ضياء"، ذلك الجسد الذي خطّ الآخرون عليه حروف الفوبيا والكراهية واللاإنسانية والعنف والجبروت باسم العيب والحرام.
رغم بكاء الروح الذي تخشع له كل الحواس، تلك الروح التي تنشد الخلاص لتعبر إلى جسد يشبهها، لم تستسلم "تينا" التي خاضت معركتها وحدها واختارت اسمها وجسدها وتناست الاغتصاب والتنكيل وفظيع الكلمات.
بأجنحة الإرادة حلّقت بعيدا ونثرت قضايا الإنسان على قارعة عالم سرمدي، تهدّ الثابت تلو الثابت وترقص على أنقاض الوصم لعل صوت خطواتها يحجب أصوات الناطقين باسم الرب وباسم المجتمع، أولائك الذين يخالون أنهم أوصياء على خيارات الآخرين وقراراتهم ويدسّون أنوفهم في خصوصياتهم.
ولأن واقع العابرين جنسيا قاس جدّا ركن مخرج "عبور" إلى الواقعية السحرية لينقل بعضا من معانتهم في مجتمعات تفرض الوصاية على الأجساد، فكانت الأسطورة ملاذا لكسر القيود ومحو آثار الظلم والظلمات.
وعلى الخشبة يتماهى الواقع مع الخيال، فتتشابك أسرة المشفى الذي سيخلّص "تينا" من سجنها والتوابيت التي تزين حافة العالم الفاصل بين الأموات والأحياء، ذلك العالم الذي تنبعث منه تراتيل الملائكة لعلها تمحي بعضا من ظلم "الإنسان" على الأرض.
سينوغرافيا تحاكي الموت ولكنّها أيضا مفعمة بالأمل الذي يسكن في حركة الضوء وفي بياض اللباس وفي صوت الملائكة، سينوغرافيا تحملك إلى عالم متخيّل تتحرر فيه الأجساد من سطوة الواقع يشيء الذوات ويجعل منها قوالب سكر متشابهة.
وأنت حينما تجهر باختلافك تكون عرضة لسهام محمومة ومسمومة، كتلك التي طالت الناشطة الحقوقية لينا بن مهني في حياتها وبعد رحيلها وامتدّت إلى صديقاتها ورفيقاتها اللاتي حملنا نعشها، ولأنّ "عبور" مسرحية عن الإنسان في كل حالاته وهيئاته فإنّ روح لينا كانت حاضرة في صوت الملائكة.
"لينا بحذانا" تقول "ستيلا " الملائكة وهي تتحدّث عن السنة الحالية وكأنّما تقول إنّ الإنسانية طريقنا للالتحام بالملائكة في السماء بعيدا عن حدود الأرض وشر خلفاء الله فيها، خلفاء لم يفلحوا إلى اليوم في فهم جوهر المهمة الموكولة إليهم.
ذات ثورة ولدت "تينا" في جسد تبيّنت في وقت لاحق أنه لا يمثّلها، وحينما خطت خطواتها الأولى كانت تونس تلملم جراحها ولمّا دخلت الروضة كتبوا دستور تونس، لتتواتر الأيام ويسيل دم الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي ذات اغتيالين.
انتخابات، ووباء وفقر مدقع وحرب أهلية تستشرفها المسرحية وتقتلع تفاصيلها من بين التوابيت، وعلى إيقاع السنوات القادمة التي عاشتها العابرة جنسيا ولم يعشها المشاهد بل تخيّلها وهو يعانق مستقبلا يميل إلى السواد والإنسانية تحتضر على نسق الاختلاف الذي تحوّل إلى ضغينة وكراهية.
الازمة الاقتصادية والتلوث والحركات الاحتجاجية والانتحارات والمعاناة في تجلياتها الكثيرة رسمتها "تينا" وهي تصغي إلى حديث الملائكة، فرقصت وغنت وحرّرت جسدها وتماهت مع مأساة الوطن وهي تلقى حسابها.
الحساب في سراط العبور لا يشبه الحساب الذي حدّثونا عنه هنا لا جزاء ولا عقاب عن العبادات بل يقاس صلاح الإنسان بالسعادة والمحبّة وأشياء أخرى تنهل من نفس المعجم، فالمؤمن الحق هو الذي يهوى الرقص والغناء ويحب الحياة ما استطاع إليها سبيلا، المؤمن الحق هو الذي يسافر مع كل حرف من رباعيات عمر الخيام فيدور حول نفسه راقصا حتّى ترتقي روحه وتتجاوز السماوات.
وحينما تتلو "تينا" العابرة جنسيا حكاياها على الخشبة وتشاركها "ستيلا" الملائكة الحديث فإنّما هي تعرّي واقع الإنسان عموما وتفتّق جراح المجتمع الذي نخر السوس داخلها وتدعو إلى تعدبل البوصلة نحو الإنسانية لأن في خرابها الطامة العظمى.
و"عبور" ليست إلا نقدا للمجتمع وصرخة مدّوية في وجه أولائك الذين يكفرون بالاختلاف ويصنعون منه هوى بينهم وبين الآخر، هوى تتسع وتتسع حتّى يأتي اليوم الذي تبتلع فيه الجميع دون استثناء، وفيها يترافق الذاتي والجماعي.
فالتجربة الذاتية للعابرة جنسيا توازيها تجربة جماعية لوطن عاش ثورة كتموا أنفاسها وتمسكوا بتلابيبها غافلين عن جوهر التغيير الحق، وتمرّد تينا التي نزعت عنها الضمادات في نهاية العرض وتأمّلت حبتي التفاح على صدرها ليس إلا تذكرة بما أن الخضوع والاستكان إلى واقع ملغوم لن يؤدّي إلا إلى الموت.
وفي "عبور" يعانق الجسد الموسيقى والسينوغرافيا وتتعاقب ذكريات "تينا" التي تسللت إليها من بين تجاويف غيبوبة سكنت إليها وهي تعبر إلى ذلك الجسد الذي نشدته ويتمدّد الشريط لتحضن تفاصيل من الماضي ستودّعها على إيقاع صوت الطبيبة تزفّ إليها نبأ نجاح العملية.