شعور الطفل بالأمان خطوة أساسية لحمايته ووقايته من المخاطر المهددة لسلامته مستقبلا

*سمير عبد الله مختص في علم الإجتماع  ومندوب حماية طفولة درجة ثالثة

يسعى  الوالدين إلى تربية أبنائهم و تنشئتهم أفضل تنشئة  مستندين في ذلك في الأغلب لتجاربهم الشخصية و ما ترسخ لديهم من خلالها و بإعتماد الطرق السائد في مجتمعهم . لكن في واقعنا المعيش لم تعد المعايير موحدة بفعل العولمة و إنفتاح الثقافات على بعضها البعض و تنوع مصادر التأثير في هذا المجال  مما جعل طرق التربية و تنشئة الطفل تختلف  حتى من عائلة إلى أخرى .

في هذا الإطار ، أن التربية المثالية ذات الوصفة السحرية التي تكون نتيجتها أطفال مثاليين ، يمكن تخيلها و الحلم بها ، لكنها غير موجودة ، لأن كل طفل  و كل والد فريد من نوعه ، و طريقة فهمه  و التواصل و التعبير عن الحب و بصفة عامة متفرد في قدراته    و إمكانياته .

بصفتك أحد الوالدين ، من السهل أن تشك في قدراتك في تنشئة  طفلك تنشئة سليمة  و متوافقة مع إنتظارات المجتمع ،أي أن تسأل نفسك و تلومها  عند القيام بالأخطاء و الفشل و الإحساس بالإحباط خلال  عملية و مسار تربية الطفل. لكن في الواقع كل إنسان يلاقي  صعوبات و يعيش التحديات  و الفشل و النجاح ، فهو يحقق نموه و تتطور و تتجدد أفكاره و طريقة عيشه و يكتسب الخبرة  بفضل ذلك . لأن الذي لا يفشل و لا يجرب و لا يبادر  لا يتعلم و يعاني الهشاشة النفسية  يجد صعوبات في تجاوز  الصعوبات و الخروج من الوضعيات الإشكالية  التي تعترضه في مسيرته الحياتية  .

من خلال هذه المقالة ، رأيت من الضرورة الإشارة إلى عنصرين أساسين في تربية الطفل في سن مبكرة ، ليتمكن من خلالهما من  الشعور بالأمن بوصفه حاجة  حيوية أساسية لكل فرد من أجل إعداده للعيش و الإندماج في المجتمع و التكيف بطريقة سليمة و متوافقة مع واقعه الإجتماعي.
يتمثل هذان العنصران في:

*الحب غير المشروط 
يمكن أن يرى البعض في بيئتنا الإجتماعية أن الحب غير المشروط  ، بمعنى أن نحب الطفل لذاته و ليس لخاصية فيه أو لسلوكه ، غير واقعي و لا يمكن ممارسته تجاه الطفل  ، كما لا يمكن وجوده إلا في الأفلام و المسلسلات التلفزية  ، حيث يتم تمثيله بشكل جيد  ، أو في الروايات و القصائد الشعرية . يمكن أن نتفهم ذلك ، لما يعيشه الولي من صعوبات تربوية في ظل مجتمع أصبحت فيه المعايير ضبابية و لا تحظى بتوافق مجتمعي ؛ حيث تتعايش و تمارس الأساليب التقليدية  و الحديثة في نفس الوقت و أحيانا تكون منسجمة مع الذوق العام في المجتمع و أحيانا هذه الأساليب تكون تقليدا باهتا للأساليب تربوية لثقافات أخرى.
فعلا ، إن الأمر ملتبسا و معقدا  ، لكنه ليس سلبيا. ففي الواقع عندما نقتنع بأهمية الحب اللامشروط و أثره  الإيجابي على  الطفل في المستقبل ، ندرك أن الأمر ليس بسيطا ، فهو مسار يسلكه الولي ، يستغرق ساعات و سنوات من الجهد و و الصبر و المرونة في  التعامل ، فهو بمثابة تدرب يمر بلحظات ضعف و شك و لحظات قوة و ثقة في الممارسة التربوية التي  نمارسها تجاه أبنائنا .
يبدو أن هذا النمط التربوي صعب الممارسة في بيئة ثقافتها و أساليبها التربوية تعتمد التأديب بالعنف و الطرق التقليدية المبنية على الترغيب و الترهيب التي تمثلها المربين و الأسر لقرون و إستبطنوها ، إلى جانب ذلك ، أي برنامج أو نظام تربوي لا يتميز بالكمال بإعتباره جهدا بشريا، لكن في كل الحالات الحب اللامشروط يساهم ويعمل على طمأنة الطفل و يترسخ لديه الشعور بالأمان و التقدير الإيجابي لذاته .
هذا الموقف الداعم الناتج عن  حب الوالدين غير المشروط يشجع الطفل على أن يكون ما هو عليه و أن يجرب و يختبر ما يحبذه و يرغب فيه . و يكشف قدراته و إمكاناته دون خوف من العقاب البدني أو المعنوي  أو فقدان ما يربطه بوالديه أو يلتجأ لتجريب طرقا غير مقبولة و مضرة به لجلب الإهتمام و التقدير.
 المهم أن  نفهم أن رغبة كل طفل الأساسية هي جعل والديه فخورين و سعداء ، لذلك رؤية آثار الرضا و السعادة ظاهرة على ملامح والديه جراء الأفعال و السلوكات التي قام بها ، سيكون خير محفز له ليجتهد فيما يفعله و سيكون مستعدا نفسيا للإستجابة لطلبات من يحبه تلقائيا سوى كان بطريقة  واعية أو غير واعية ، لأنه يعتقد أنهم يحبونه لأنه يقوم بأفعال تسعدهم و تشعرهم بالإفتخار، مثلا عندما تسأل طفلا في مرحلة التعليم الإبتدائي ، لماذا يدرس و تسعى أن تكون متميزا لا تستغرب إذا كان جوابه أنه يقوم بذلك من أجل إرضاء والدته أو والده  .
هذا  لا يمثل الحب  غير المشروط فهو العكس تماما ،  حيث لا يقوم هذا الأسلوب التربوي على تحقيق توقعات و مطالب يجب أن يلبيها الطفل ليلقى حب والديه. بل لابد أن  يفهم أنه محبوب لذاته و ليس لأفعاله ، ليس لأن علاماته الدراسية كانت جيدة أو أنه جميل. لذلك يجب أن يربي الطفل و يفهم أن له الحق في أن يقوم بالأخطاء و أنه ستتم مجازاته و شكره عندما يتعين ذلك .
إن الطفل يعيش ضغوطات و تجاذبات مسلطة عليه ، فمن جهة يرغب و يسعى في رضا والديه و  تحصيل محبتهم ، و من جهة أخرى يرغب في تحقيق رغباته فهو عالق بين دوافعه الذاتية و بين المعايير و النواهي الوالدية و المؤسساتية،  سواء أكانت تربوية أو إجتماعية ، فتجعله لا يعرف على أي ساق يرتكز  أو في أي إتجاه يسير. هذا الصراع يجعله  مقيدا  و يحد من إمكانياته و يقلل من ثقته في نفسه و قدراته  ، و تجده ضائعا بين ما يشعر به و يرغب فيه  و بين ما يجب أن يقوم به ، خوفا من فقدان علاقاته مع من حوله.
نبين هذا من خلال أمثلة لأحاديث  قد يحادث بها الطفل نفسه باطنيا أي مع ذاته لتوضيح ما سبق  و هي :
– إذا لم أجعل  والديا فخورين أو سعداء ، فأنا طفل سيء.
– إذا تجادلا والديا و تصايحا ، فذلك بسببي.
– إذا إستجبت لطلبات والديا ، فأنا أحصل على محبتهما و أحافظ عليها ، لذلك أكون حذرا لأنهم يستطيعون سحب حبهم مني .
– أرغب في فعل هذا ، إلا أنني سأعاقب ، و أصبح غير محبوب لذلك من الأفضل أن أنصاع  . 
*التعامل الجيد مع إحباطات الطفل و فشله .
 العنصر الثاني الأساسي لتربية طفل قادر على الإندماج في بيئته الإجتماعية و الثقافية  و يكون سلوكها متوافقا معها هو التعامل الجيدة مع إحساسه بالإحباط و الفشل . فهو قبل كل شيء كائن بشري له تصرفات فطرية و مدفوعة برغباته في مدة زمنية معينة ، هذه التصرفات في حاجة للصقل و التهذيب لتصبح مقبولة إجتماعيا . تبعا لذلك لا بد من تأطيرها ، و بيان حدودها مع مراعاة حاجات الطفل النفسية و الإجتماعية. لأن الطفل  الذي لا نضع له حدود و  معايير و إطار عمل أو مجال يتحرك فيه  وندربه على إحترام ذلك ، لا يكون قادرا مستقبلا عندما يكون راشدا على العيش في إطار أو بيئة لها حدودها و معاييرها و قواعدها المنظمة لعلاقات بين أفرادها ، فيحترمها و يعمل  على عدم مخالفتها  تلقائيا و إيمانا و ليس خوفا من العقاب أو الإقصاء ، فيكون سلوكه متوافقا مع سلوك المجموعة .

إن عدم تحديد الإطار الذي يتصرف فيه الطفل  قد يجعل منه عنيفا و متشددا ، مشاعره تتأرجح بين الحب و الكراهية. و يجد صعوبة في الإندماج لعدم فهمه للقواعد السلوكية و القيم و المعايير المنظمة للبيئة الإجتماعية التي ترعرع و نشأ فيها ، فيصاب بالإحباط لأنه لم يقدر على التكيف مع بيئته و التأقلم مع كل تغيير و وضع جديد . 
إن الطفل منذ الصغر يلاقي إحباطات و تتملكه مشاعر الفشل و الإحساس بعدم القدرة على النجاح .

هذه المواقف و الوضعيات التي يعيشها يجب أن يتعامل معها الوالدين بشكل مناسب لتساعده على التطور و النمو و  إكتساب المهارات الإجتماعية و الإنفعالية التي تسمح له بالقدرة على التكيف و الإندماج و إظهار الإحترام و التسامح فيما يتعلق بالتجارب العلائقية و الإجتماعية التي  يعيشها مستقبليا، إذا لم  يتعود على التعامل مع إحباطاته بشكل جيد ، فسيعتمد القوة كأسلوب للتعبير عن ذاته .

إن الطفل مثل الكبار تحركه و تثيره عوامل في بيئته و محيطه الإجتماعي ، فهي تمثل أساس دوافعه السلوكية ، لذلك لابد من التعامل مع إحباطاته و لحظات ضعفه وفقدان أو ضعف الثقة في نفسه بحذر  و نتقبل ذلك ، و نرافقه ، و نكون سند له لتجاوز تلك اللحظات و آثارها السلبية على نفسيته و على نموه المتعدد الجوانب و بناء شخصيته .
إن ترسيخ إحساس الطفل بالأمن و الأمان يتم بداية في محيطه العائلي في سن مبكرة ، حيث سيتعرف على إطاره الإجتماعي الذي سينشأ فيه و مكوناته و قواعده و حدوده و دور والديه و يكتسب خبرة في التعامل داخل تلك البيئة ، حيث تمكنه الإحباطات و لحظات الفشل التي عاشها أن يفهم على سبيل المثال :
–     أنه ليس مركز الإهتمام الوحيد لوالدته ، التي لديها علاقة مميزة مع والده و لها أنشطة خارج الأسرة و لها مهنة و  إهتمامات و صداقات و الخ …
–    أن يكون محبوبا على حقيقته و ليس لما يفعله ، و أنه توجد بيئة من حوله يجب  أن يتكيف معها لأنه سيعيش فيها .
–     أن ينمو و يجرب بمفرده وفقا لنسق نموه و أن التحديات تطرح عليه يوما بعد يوما ، و أنه في يوم ما سيصبح بالغا قادرا على تكوين حياته الخاصة و تأسيس عائلته و لديه شغله و أنشطته الخاصة به .
ختاما ، يمكن تفسير معاناة عدد كبير من الشباب و إنسياقهم نحو سلوكات محفوفة بالمخاطر أو مخالفة  للقوانين من خلال التنشئة الإجتماعية  التي تلقوها و المتميزة بالحماية الزائدة و المفرطة ، بحيث لم يتعودوا منذ الصغر على مجابهة إحباطاتهم و فشلهم بأنفسهم و لم يشعروا بأنهم محبوبين لذواتهم . لذلك  عندما يجدون أنفسهم بعيدا عن العائلة  ، يكون إنتقالهم إنتقالا عنيفا نحو الفردانية و العيش بإستقلالية ، لأنه لم توفر لهم الفرص الحقيقية في الصغر على أن يختبروا قدراتهم و لم يتعودوا على الفشل و يجربوا  مشاعره  ، و لم يتدربوا و يتربوا على مجابهة المصاعب و رفع التحديات و تجاوزها بمفردهم ، بسبب  خوف الوالدين من تعرضهم للإحباط ، فقاموا بحمايتهم حماية زائدة ، مما كان سببا رئيسيا لمعاناتهم في الكبر .
بهذا المعنى ، الحب اللامشروط و التعامل الجيد مع إحباطات الطفل مكونان أساسيان يسمحا له في سن مبكرة ، خوض التجارب الفردية مما يساعده على إكتساب الثقة بالنفس و الشعور بأنه جزء من  عالم حقيقي ، له حدوده و معاييره ، يمكنه في إطاره إختبار قدراته  وحدودها  و تطويرها  و تنمية وعيه الذاتي و التكيف مع متغيراته  و تجنب السلوكات المحفوفة بالمخاطر.

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.