“شامبا” .. عن فنان يستنطق الأمل على تخوم اليأس

يسرى الشيخاوي-
على نوتة الحياة خط فصولا من الإرادة، ومن نوتاتها خلق موسيقاه التي تعانق الحرية، في أزقة المرناقية وأنهجها خبر كيف يكون إنسانا وفنانا وفيها خلق المعنى وراء المعنى وبعث الحياة في النوتات والكلمات.
من الكلمات صنع عوالمه وفي أحضان الراب أطلق العنان لقريحته ليعيش تناقضات الحياة على طريقته ويحلم بغد لا قيود فيه ولا حدود، وفي رحاب الألوان تناسى سوداوية الواقع وخلق عالما يرشح أملا.
عند تخوم اليأس، يشهر الفن سلاحا ليئد كل تجلّيات الموت من حوله ويستنطق الأمل النابع من روحه، من الراب إلى الرسم فالتمثيل يربّت على أحلامه ويتلو على أعتابها آيات الإصرار والإرادة ويكفر بواقع يكبّله بأغلال هلامية.
هو طاهر الفرشيشي، الذي اصطفى  الكلمات تعبيرات عما يعتمر دواخله من هواجس وأشجان ومفاتيح يشرّع بها أبواب الأمل كلّما أوصدها الواقع في وجه، ولولا الكلمات لكان اليوم رقما في سجّل الوفايات.
فنان مرهف الحس، صادق وعفوي، لم يتلق تكوينا أكاديميا ولكن الحياة ألهمته الكثير، طرق أبواب المسرح صدفة ورغب في الالتحاق بدروس فضاء التياترو ولكن الرياح جرت بما لم تشته سفنه، لم يحزن كثيرا حينها ولكنّه نزع الفكرة عن عقله.
 لكن القدر أبى إلا أن يحمله مجدّدا إلى عوالم التمثيل، بعد أن عرض عليه صديقه دورا ثانويا في فيلم عن القنّب الهندي وكان أن وافق، ولأنه يهوى التمثيل ويبث أنفاس الصدق في أدائه صار بطلا للفيلم بدل صديقه.
فصل آخر، يخطه طاهر على نوتة الحياة، فصل تركت فيه الصدفة بصمتها ووشحه بعشقه للتمثيل، هي المرة الأولى التي يقف فيها أمام الكاميرا في فيلم " نوتة حياة"، الفيلم الذي يحاكي واقعه في فترة لاحقة مع اختلاف في التفاصيل.
هو حديث العهد بالتمثيل، ولكن يبدو أنّه كان يمتص كل المشاهد في الأفلام التي يهوى مشاهدتها ليشدّ إليه صنّاع الفيلم الذين لم يبخلوا عليه بالتوجيه والإرشاد وفي المقابل قدّم أداء مقنعا ومفعما بالأحاسيس.
 
وأنت تشاهد الفيلم، لن تشكّ للحظة أنّك أمام قصّة واقعية، بطلها "طاهر" شاب تونسي مولع بالراب يكتب ويغني ويخلق موسيقى تشبه بصحبة أصدقائه، ولكنه يجد نفسه بين القضبان فقذ لأنه اشتهى سيجارة قنب هندي تعدّل مزاجه وتدرّ عليه مزيدا من الإلهام.
في طريقه نحو شهوته ألقت عليه القوات الأمنية القبض وقضّى سنة في السجن ذاق فيها ألوانا من العذاب وتسرّب فيها اليأس إلى داخله ولكنه لم يذفئ شمس الامل في قلبه، تلك الشمس التي رسمها على جدران الزنزانة.
عند انتهاء مدّة السجن، يرنو "طاهر" إلى الهجرة غير النظامية بعد ان ضاق ذرعا بواقعه ولكنه لم يفلح فكانت جرعة " سوبيتاكس" زائدة كفيلة بأن تحقق رغبته في الانتحار، وعلى مشارف النهاية بزغت بداية جديدة ملؤها الأمل والحلم.
 و"نوتة حياة"  أنتجته وكتبت السيناريو مبركة خذير وأخرجته فتحية خذير والمغربي محمد سعيد زربوح، وهو فيلم يلخّص جور قانون المخدّرات وأثره في الأنفس ولكنه أيضا يرسم سبلا من الأمل، وبعد تصوير الفيلم كان تصوير أغنية "نوتة حياة" التي أداها طاهر وصديقيه أميمة ومعتز.
والحديث عن الفيلم ليس إلا تمهيدا لما سيحدث مع طاهر الفرشيشي في فيلم واقعي، هو أيضا بطله، هو مغني الراب ابن الحي الشعبي الذي يجالس السكّير والسلفي، اجتماعي إلى حد النخاع ولم يخطر بباله يوما أن يكون ذلك سببا في سلبه حرّيته.
 فيما هو يدرس إمكانية السفر إلى دولة اوربية حيث يخطط لدراسة التمثيل في الخارج، ينزل عليه خبر حرمانه من السفر كالصاعقة، فهو مشمول بإجراء "s17" بسبب شبهة إرهابية، وفق حديثه مع حقائق أون لاين، إجراء جعله أسير سجن بلوري، على حد تعبيره.
النبأ الموشّح باليأس يعود غلى أشهر خلت حيث كان طاهر بصدد استخراج جواز سفره، ليعلم أنه محل شبهة إرهابية، شبهة دفعته في البداية إلى الضحك قبل أن يحاول أن يفسر للأمني أن في الأمر خطأ ما.
وعن سبب منعه من السفر، يشير محدثنا إلى أنه يعود إلى امتطائه سيارة أجرة مع شباب ملتح يرتدي قميصا، سبب مثير للضحك ولليأس من منظومة تتفنن في وأد أحلام الشباب، سبب كان كافيا لأن يدخل ذاهر في دوامة من اليأس غادرها بفضل الفن.
ومن رحم الظلم والجور، ولدت أغنية "مانيش ناسي"، وهي العمل الفني الأول الذي يحكي عن إجراء "s17"، وفيها يبث طاهر شكواه وشكوى كل من ذاق ويلات هذا الإجراء الجائر، وبها خلق أجنجة تتجاوز كل الحدود.
"تحجير سفر لا جو لا بحر ضاع العمر وأنا نكر سيستام الغدر برشا شر"، كلمات أشبه بالرصاصات يقارع بها واقعه، واقع ينتظر أن تغيره المحكمة الإدارية بقرار يلغي الإجراء المتخذ ضده ويعيد إليه حرّيته كاملة.
وعبر هذه الكلماتت يتحرر من قيوده ويستعيد صوته الذي أضاع بعضا منه وهو يصرخ دون مجيب، بإمضاء " شامبا" كانت الأغنية التي كانت تعبيرة عن الحرية وعن الأمل وعن الحياة بكل تناقضاتها.
و"شامبا" تسمية متأتية من كنية لوالده أطلقها عليه أبناء لأنه يشبه الممثل الأمريكي "ريتشارد شامبرلان"، بها يوقّع كل أغانيه وكأنه يزرع بين ثنايا الحروف حبّه لوالده ولعائلته وللمرناقية المكان الذي فكك فيه معاني كثيرة.
ولأن تفاصيل حياته تلتقي كثيرا عند "نوتة حياة"، فإن فكرة الانتحار راودته أيضا كما راودت "طاهر" بطل الفيلم، لكنّه لم يستسلم لها واستجار منها بتجارب الحياة القاسية وبالكلمات والموسيقى، وفكّ قيوده بنفسه في انتظار أن تفك الدولة قيده وتمكنّه من السفر ليلاحق  أحلامه.
 
 
 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.