“سوڨ سمّامة”.. في حكايا الرعاة تحيا الحياة (صور)

يسرى الشيخاوي-
 
"الوساعية"، لافتة تطالعك ما إن تولّي وجهك شطر اليمين بعد أن تبلغ مفترق "الشرايع" وأنت تتجاوز "سبيطلة" وتمضي في طريق القصرين، هي ليست مجرّد لافتة بل هي بوصلة لصراط واقعة ذات الشمال على بعد بعض الكيلومترات، صراط تؤدّي إلى المركز الثقافي للفنون والحرف بسمّامة.
 
أشجار زيتون وارفة ترقص أوراقها على وقع ريح ناعمة، بين جذوعها يمتد بساط بلون السماء تتساقط عليه حبات الزيتون فتكتب حروفا عصيّة على الفهم، حروف تتبدّل وتتغيّر إذا ما لامستها انامل النسوة اللاتي يجمعنها، هو مشهد يشدّك إليه فتتشبث عينيك به وتختزن ذاكرتك تفاصيله القليلة قبل أن تواصل سيرك إلى "الأعلى".
 
نباتات التين الشوكي، على جنبات الطريق تزينه بلونها الأخضر ولون ثمارها الذي اصطفى له درجة لونية تشبه الأحمر ولكنّها مختلفة عنه، فسيفساء من الألوان تمتد من الحلفاء إلى النباتات الشوكية فالأشجار ولون الاسفلت والتراب، ألوان تحكي روايات مثيرة عن الرعاة وعشقهم للحياة.
 
فالمركز الثقافي للفنون والحرف بسمّامة، فضاء يتردّد فيه صدى أهازيج "الهطايا" وأنين الرعاة وشكواهم ويعانق فيه مدى الفرح العلياء، وتمدّ فيه الموسيقى جذورا في قلب الجبل فتطمس ذبذباتها أصوات الظلاميين وتخنق أنفاسهم المسمومة.
 
هنا، غير بعيد عن جبل سمامة، تواجه الحياة التي تسكن تفاصيل لا يخبرها إلا من سكنت المحبّة قلبه، موت يتخذ في كل مرة شكلا، من الألغام إلى الإرهاب فالتهميش والعدم، هو سجال بين الحياة والموت، لا غالب فيه إلا أرواح   يسكنها الأمل.
 
على خطّ النار، ولد المشروع الثقافي الجبلي سمّامة لصاحبه عدنان الهلالي، ومن ألسنة اللهب أوقدت النسوة نيران آوين فيها مجسّمات الطين، وأعددن عليها خبزا  قُدّ من دقيق وماء ومحبّة، وعلى بقاياها جثم "برّاد" شاي تعادل قطراته اكسير الحياة.
 
في هذا المشروع الثقافي كل التفاصيل تشبه سكان سفح الجبل، الفضاء شاسع كقلوبهم العامرة بالمحبة، والحيطان بيضاء اللون مثلها، الخضرة تلفّ الفضاء من كل جانب تستمدّ لونها من أعين الأطفال والشيوخ، وفي كل الزوايا تطالعك  ابتسامات زيّن فيها الأمل اليأس حتّى صارت عجائبية.
 
ومع ميلاد المركز الثقافي للفنون والحرف بسمّامة، غدا لسكّان سمّامة ثقافتهم التي تشبههم، ثقافة ولدت من رحم حكايا الرعاة من أفراحهم وأتراحهم ومناجاتهم للطبيعة، ثقافة مزاجها بساطتهم التي يوشّحها عمق تحفظه أغانيهم والسبل التي يسلكونها وأغنامهم أنّى انبلج الصبح.
 
عروض موسيقية ومسرحية، سيرك ومعارض فنية لكل أهالي سمّامة، المنطقة التي يسكن الابداع في كل زواياها ويعبق منها الأمل كلّما غازلت الريح النباتات الجبلية، المنطقة التي يصنع أبناؤها واقعهم بعيدا عن الواقع الحقيقي وتتشبث جذورهم الحيّة بالمكان رغم القسوة والتهميش.
 
تظاهرات كثيرة حفظت جدران المكان تفاصيلها لعلّ أبرزها عيد الرّعاة أوإخوة الأنبياء، أولائك الذين يدينون بدين المحبّة ويعبّدون بالطيبة والبساطة طرقهم، فصول كثيرة من حكايا الرعاة خطّها عدنان الهلالي وكل من عشق أغانيهم ويومهم الحافل بالدروس.
 
وليس "سوڨ سمّامة" إلا فصلا جديدا من حكايا الرعاة، تلك الحكايا التي تحيا الحياة في كل حروفها، ولسبر ملامح هذه السوق توافد الزوار على الفضاء الثقافي الجبلي جماعات وفرادى لتعانق أعينهم إبداعات نسوة ورجال زادهم الحلم وحب الأرض التي خلقوا فيها.
 
في الطريق إلى  "سوڨ سمّامة"، تشدّ أنظارك رفرفة علمي تونس وفلسطين عند "هضبة محمود درويش" حيث خُطّ "على هذه الأرض ما يستحق الحياة"، فعلا على سمّامة أشياء كثيرة تستحق الحياة، منها رقصة العلم على إيقاع الريح وبوح الفزاعات التي تزيّن أسفل الهضبة ومحيط المركز الثقافي ووقفة الأمنيين والعسكريين يؤمنون زوار الفضاء الثقافي.
 
تتأمل وجه درويش المرسوم على حجارة هذه الأرض الصامدة وتتوه بين التعبيرات المختلفة للهضبة إلى أن تملأ انغام الزكرة والقصبة الأثير وتعانقها ايقاعات الطبل لتسري حالة من البهجة في صفوف الحاضرين، وصلة من العزف القادم من عمق التراث الموسيقي التونسي كانت دليلا إلى السوق.
 
وعلى ايقاع أنغام رعاة تشبثوا بهويتهم وكسوا أجسادهم بملابس تشبههم في جمالهم وبساطتهم انطلقت الجولة في "سوڨ سمّامة"، وفي"القشابية" والملية" وأغطية الرؤوس فصول من قصص الرعاة، رعاة هذه الأرض بتينها وزيتونها وحجارتها وتربتها وثناياها الوعرة ووجوهها الكثيرة الباسمة منها والمتجهّمة.
 
"برغل" و"بسيسة" و"كسكسي"، منتوجات شكّلتها أنامل نساء سمامة من حبات القمح بمحبّة، حتّى أوجدت لنفسها مكانا ضمن معروضات السوق، وغير بعيد عنها تنتصب رحى تقليدية في شموخ وكأنها تقول أنا الرحم التي حملت هذه المنتوجات في أحشائي.
 
وإذا أنت انعطفت يمينا تطالعك كراس توشّحت بجلود خرفان يأسرك بريقها وغير بعيد عنها  تحف من الطين ومناديل من الصوف تزيّنت بألوان الحياة وصائدات أحلام تعدّدت أشكالها، وحتى البوم الذي يعدّ نذير شؤم  في بعض الدواخل تدثّر بالحلم.
 
تمضي إلى الأمام فتشدّك تحف وسلال نظمتها أنامل حرفيات وحرفيين من سمّامة، تختلف أحجامها وأشكالها وألوانها ولكنّها تلتقي عند تطويع نبتة الحلفاء وتحويلها إلى منتوجات فنية يمتزج فيها لون الحلفاء الطبيعي مع ألوان أخرى منها الزهري والبنفسجي والأحمر والأخضر.
 
ومن ألوان الحلفاء الآسرة، تتشبث أنظارك بالمرڨوم، ذلك الغطاء الصوفي الذي تخلقه أنامل النساء من خيوط تحمل بعضا من حكاياتهن مع الزمن، ألوان وأشكال مفعمة بالحياة تزيّن أرضية الفضاء الثقافي، فيها من أرواح نساء حالمات وهي معزوفة مرئية نوتاتها خيوط المنسج البيضاء وأشرطة الصوف الملونة وأنامل النساء و"الرطّاب".
وغير بعيد عن المرڨوم، تنتصب "خنانيس" ومفردها "خنوس" وهي آنية مصنوعة من الحلفاء معدّة لنقل التين الشوكي، هي ليست مجرّد آنية بل هي حمالة حكايات وأسرار عن الجهة وعن طبيعة العيش فيها وعن العلاقات بين ساكنيها.
 
وأنت تتأمل تفاصيل "الخنانيس" تحوم حولك نحلات وتغويك بملاحقتها لتجد نفسك أمام منتوجات العسل، ومن عسل الإكليل إلى عسل الجبل، فمربى حبات الرمان وخليط ثمار الصنوبر والتمر، حلاوة تدخلك في حالة من النشوة وتزيدك رقصات النحل من حولك متعة.
 
منتوجات غذائية وصناعات تقليدية صنعتها أنامل النساء في سمامة وحملّنها رائحة الجبال ونكهة أعشابها، تهافت عليها الزائرون، زائرون كانوا على موعد مع عرض رعاة سمامة وعرض مسرحي لتلاميذ مدرسة الطرش بعنون "حكايات الجبل".
 
وفيما نساء سمامة يعددن "كسكسي" بنكهة الجبل يخطّ أطفالهن حروف الرفض برقصات "البريك دانس" ويلون آخرون لوحات انبثقت عن مخيلتهم في ورشة للرسم ويلعب آخرون كرة القدم على إيقاع القصبة والطبل، وتصدح أصوات نساء بالغناء، قد لا تفهم الكلمات ولكن نظرات الأعين أبلغ أحيانا.
 
"سوڨ سمامة" هدمت ثوابت السوق الكلاسيكية لتراوح بين منتوجات مادية ولا مادية، في تناغم مع فلسفة مشروع المركز الثقافي الجبلي، إذ يحتفي المكان بثقافة الرعاة، ويمكن أن يكون "سوڨ الرعاة " اسما بديلا له، على حدّ قول عدنان الهلالي.
 
مراوحة بين الفني والحرفي وفضاء يجمع كل الأعمار دون استثناء، فالحرفية التي حاكت من نبتة الحلفاء أواني وسلالا وجعلت من الهندي عصيرا ومعجونا وأشياء أخرى ونسجت من خيوط الصوف مفروشات جميلة وأخذت من الجبل رائحته ودسّتها في المنتوجات، ليست حرفية فحسب بل هي أم لطفل مبدع، يعشق الرسم أو المسرح أو الرقص، حسب حديث الهلالي.
 
عن فكرة "سوڨ سمامة"، يقول حبيب الرعاة وعاشق ثقافتهم، إن المركز الثقافي الجبلي يسعى إلى الترويج لثقافة المكان من تراث فني أو غذائي إلى جانب فتح آفاق للحرفيات اللاتي تشتغلن بشكل موسمي، وهي فرصة تمكّنهن من التعريف أكثر بمنتوجهن وضمان مدخول يمكّنهن من المضي قدما في هذه الحرف.
 
وهذه السوق ستفتح ذراعيها لمحبي الجبل ومنتوجاته شهريا إن سارت الريح بما تشتهي سفن القائمين عليها، ذلك أنه ليس من الهين أن يتم انتاج كمّيات كبيرة من المنتوجات في ورشات المركز الثقافي ولكن هذه المنتوجات ستتنقّل إلى الجهات ومن المنتظر أن تكون حاضرة في مدار قرطاج وسيكا جاز بالكاف، حسب حديث عدنان الهلالي.
 
وإلى جانب المنتوجات التي عرضها في افتتاح السوق، يوم الأحد الفاتح من ديسمبر، لم يتم عرض بعض المنتوجات لضغط الوقت من جهة ولحرص الحرفيات على عرض منتوج يليق بالقيمة المعنوية لثقافة الجبل، ذلك أن الهدف من السوق ليس الترويج للمنتوجات بقدر تحريرها من خانات النسيان والتهميش.
 
وفي سوڨ سمامة المقبل، سواء في المركز الثقافي الجبلي أو في الأماكن التي ستنتقل إليها سيكون الزوار على موعد مع منتوجات غذائية أخرى خلقتها أنامل الحرفيات، ومن بين هذه المنتوجات الأجبان التي ستكون بعطور جبلية في إطار ورشة تشرف عليها إلهام بوفايد.
 
وفي هذه السوق، حيث تعبق كل التفاصيل برائحة الزعتر والاكليل، تتسوّق وتتذوق طعم الماضي الجميل وتصافح أطفال يمدون جذورهم في قلب الحياة، ونساء يجعلن من تراجيديا الواقع أغان ترافقهن في رحلة الرعي أو جمع الأعشاب الجبلية، ورجالا تواسي ابتساماتهم المبهمة عيونهم التي لا تشيح عن أرض لن يفرطوا فيها، هنا في سمامة تتعدّد التعبيرات والتأويلات لتلتقي عند حب الحياة.
 

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.