سهرة الكاف في ليالي الجهات.. رسائل من الهامش إلى المركز على وقع الطبل ورائحة الجبل

يسرى الشيخاوي –

خيّمت النسمة الكافية على مدينة الثقافة، إذ انتقلت ولاية الكاف بموروثها الحضاري والثقافي من الهامش إلى المركز.

وحيثما يمّمت وجهك في رحاب مدينة الثقافة المنتصبة في قلب العاصمة تونس تطالعك “سيكافينيريا” التي سمّيت نسبة لآلهة الحب والجمال “فينوس”.

في الساحة الخارجية لمدينة الثقافة علا صوت “الطبال” و”الزكرة”، وتهافت روّاد المدينة على جمع العازفين الذين انقسموا إلى فرقتين واحدة على يمين المدخل والأخرى على شمالها.

زادهم طبل يربتون على جلده بعصي رفيعة و”زكرة” ينفثون فيها نسمات الكاف العالي، رقص العازفون الذين اختلفت ألوان “الجبب” التي يرتدونها وتراوحت بين “البيج” و”الخمري” لكن تشابهت خطواتهم.

رنين “الزكرة” مصحوبا بإيقاع الطبل يحملك إلى أجواء ” المحفل” و”النجمة” و”الحمام” وهي طقوس لا تخلو منها الأعراس في ولاية الكاف قديما، قبل أن يتخلّى عنها الجيل الجديد في طفرة التطور.

حشود من الناس لبّت نداء “طرق الصيد”، وتسارعت ضربات الطبل وعلا رنين الزكرة وكأنما نسمات الكاف تسربت بين ثقبها.

كان العازفون يتقدّمون بخطوات متناسقة وقد رفع كل منهم إحدى رجليه ثم يتراجع إلى الخلف وقد رفع الرجل الثانية، ومنهم من رفع الطبل على رأسه وواصل القرع وهو يلامس الأرض تارة ويعانق السماء تارة أخرى، كان يهوي بطبله ويرتفع بنسق سريع.

وفيما تصدح حناجر الفرقة التي يلبس عناصرها “الجبب” البيضاء بـ “لا من يجينا” ويلعلع صدى الزغاريد في سماء محمد الخامس، تواصل الفرقة الأخرى العزف على إيقاع رقصات روّاد مدينة الثقافة الذين حلوا للاحتفاء بالكاف وموروثها.

لا ينقطع رنين “الزكرة” وإيقاع الطبل وأنت تعبر السلالم لتلج مدينة الثقافة ليطالعك “المرقوم”، و”الكليم”، و”كليم الشوالق” و”العبانة”، وهي أغطية ومفروشات صنعت يدويا تقاطعت في كونها ولدت من رحم “السيادة” لكن اختلفت ألوانها ورسومها.

تجول بخاطرك بين “النقلة” والأخرى وتراود رائحة الصوف أنفك ويشدّك مشهد امرأة تليّن الصوف بـ”القرداش” ومن حيث لا تدري يتناهى إلى سمعك رنين “الخلالة” ووقع “الرطّاب” وهو يعانق “الجدّاد”.

الطيّن الذي خلقنا منه هو الآخر كان حاضرا في مدينة الثقافة، تقدّ منه امرأة ابنة الكاف أواني فخارية على عين المكان، كانت تمسك الآنية بين يديها بكل ما أوتيت من حنان وتمسح عليها حتى تستسلم عجينة الطين وتصبح ملساء.

رائحة الجبل كانت حاضرة في ليالي الجهات، بزيوت الاكليل والزعتر ومستخرجات الأعشاب الجبلية التي ملأ عبقها المكان.

وفي عرض يحاكي أعراس الكاف، انطلق ” محفل” عروس من ساحة الجهات واستترت كل فتاة بـ”حرام” أحمر، وتبوّأت مقعدها في “تصديرة” ببهو مدينة الثقافة.

“كليم مرقوم” بألوان زاهية، و”حولي” أحمر تتخلله خطوط ذهبية و”كنسترو حنة”.. تفاصيل قد تبدو للبعض سطحية ولكنّها تحمل في ألوانها عمق الكاف.

وعلى أنغام أغنية ” سيدي عمر” التي تمدح أحد أولياء الله الصالحين، تخضب يد العروس بالحناء وتعلو الزغاريد وتلمع شرارات الشموع التي تعلو خليط الحناء.

وسهرة الكاف في ليالي الجهات التي حضرها وزير الثقافة محمد زين العابدين ووزيرة السياحة سلمى اللومي ووزيرة الشباب والرياضة ماجدولين الشارني، شهدت عروضا موسيقية في مسرح الجهات تردّد فيها صدى “الطرق” في أرجاء مدينة الثقافة.

والرقص الشعبي لم يغب عن التظاهرة التي تعدّ الأولى من نوعها في العاصمة، إذ تقاطعت التجارب الموسيقية والرقصية والحرفية لترسم شرايين “سكافينيريا” الممتدّة في عمق التاريخ.

والرقص الشعبي لم يشمل فقط الفتيات اللائي هززن خصورهن على وقع الأغاني التراثية بل قدّم أحد الفتيان لوحة راقصة حاكى فيها بجسده خطوات المرأة الراقصة وأضفى عليها بصمته من خلال بعض الخطوات ” العنيفة” وسط سحابة من البخور والتصفيق.

وسهرة الكاف لا تكتمل دون حضور صوت الكاف العالي وذاكرة تراثها الغنائي، العربي القلمامي، الذي أطرب الحضور بصوته المميز وهو يغني “مرض الهوى قتالة”.

وغنّت مجموعة لوليا الكافية أغانيَ تراثية بأسلوب موسيقي ذي طابع غربي سواء كان على مستوى الجمل الموسيقية أو الآلات المصاحبة للغناء على غرار الغيتار.

سهرة الكاف في ليالي الجهات حملت في جعبتها عدّة رسائل من الهامش إلى المركز منها أن الكاف أرض حبّ وفن وجمال لن يمحوها تهميش السلطة المركزية وأنها عريقة بتراثها الطبيعي الثقافي والفني وأنها غنية بطيبة أهلها التي تعلو وجوه المشاركين في التظاهرة من عازفين وحرفيين.

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.