ريم سعد.. عن فنانة توقد روحها شموعا لتنير سبيلها

 يسرى الشيخاوي-

ليس من السهل أن تمضي في سبيل لا يلوح النور في بدايتها، وحيدا دون سند ولا عضد وبأفكار مبعثرة وروح مضطربة، وليس من السهل أن تثبت أقدامك على سراط مهتزة تسيل من بين ثناياها أنهار من المياه تعبث بتوازنك وتحول دون تقدمك.
ليس من السهل أن تسير حافيا في طريق معقدة بالأشواك، وتستقر الشوكة وراء الشوكة في قديم وتخضب القرى من تحتك بالدم، وليس من السهل أن تستنطق الأمل على تخوم اليأس، ولكن من المستحيل ان تسكت صوت الحياة فيك وتخرس نبضات قلب نابض بالفن.
هي البدايات صعبة لكنها ملهمة ومصدر عزيمة وإصرار، ولولا العثرات لن تسبب فيك النشوة ان تهاديت في ثنايا ملونة بالأمل تماما كما فعلت الفنانة ريم سعد، فنانة لا تنفك تتحسّس صوت الخيال وسط ضجيج الواقع.
هي فنانة تشكيلية وحرفية وباعثة مشروع ارادت له ان يكون مختلفا، في البدء أسرها التعليم الجامعي ومارست المهنة التي تحب بعد التسجيل في رسالة الدكتوراه، ولكن رحلتها مع التعليم انتهت قبل أوانها لما تهاطلت عليها الصعوبات ولم تكن أمامها خيارات اخرى.
بالقطيعة مع التعليم الذي كانت تتمثل فيه عوالمها الجميلة، سكنت إلى نفسها تسألها وتسائلها وتبحث في ثنايا عن أجوبة عالقة تنشد الخلاص حتى سطع نور وسط العتمة، هي فكرة "شمعدان" أضاءت من حولها حينما اوقدت ريم سعد روحها شموعا.
شمعدان تلك اللفظة الفارسية التي تعني وعاء الشمع ، فقزت إلى خيارها وهي التي كانت تحترق كل ليلة وهي تلاحق خيط الأمل وتلملم شتات نفسها التي أعيتها المصاعب، وكما الشمعدان بدت ذاتها التي تحاكي روحا تذوب كل ليلة وهي تحاول ان تدس النور في الظلام من حولها.
مثل طائر الفينيق كانت كل ليلة تحترق لتنهض من جديد حتّى تبدّت لها فكرة المشروع، ولأنها كانت قد انقطعت عن التدريس ولا تحوز على أموال لتعلن ميلاد مشروعها فلم يكن أمامها سوى خلق فكرة الورشات المتنقلة.
الشمعدان، أيضا، وعاء غير متكلس ومتحرّك في كل الاتجاهات وقد استلهمت خاصيته لكي لا تئد مشروعها وهي تواجه صعوبات مادية، ومشروعها هو الشمعدان الذي استوعب شموعها التي تضيء من حولها لكنهالا تتلاشى.
مشروعها لا يخلو من بعد استيتيقي شاعري مداده الإصرار والمقاومة، وفي تحدّ لكل العوائق تسلحت بأدوات خلقها الفني وولت وجهها شطر الحدائق والمقاهي الشعبية تشارك أحلامها مع الآخرين.
وعند "شمعدان" يتماهى الحرفي والفني وتتحرر ريم سعد من كل تمظهرات المادة حتّى انها تختصر الكون كله في جسدها ولوحاتها وأحاسيسها وابتساماتها التي توزعها على العابرين حيث استقرت.
وفكرة الورشات المتنقلة التي خلقها العجز عن كراء مقر يكون لورشة تؤوي أفكارها وتصوراتها، كانت فسحة رتّبت فيها أفكارها المبعثرة ونثرت فيها النور على جنبات السبيل التي قررت أن تسلكها على مشقّتها.
وهي ترسم ملامح فكرتها، كانت تتصرف على سجيتها وتتمثل الكون من حولها كما يتبدّى لها في عاطفتها فأنشأت علاقة خاصة بينها وبين "الآخر" في الأماكن التي ترتادها لتشكّل لوحاتها دون ان تضطر لخلاص معلوم كراء.
رغم انها ديناميكية ونشطة وهي التي كانت تلاحق الصور والمشاهد والتفاصيل، خبرت معنى الصبر والجلد في تجربتها الجديدة التي أضفت على شخصيتها مسحة من النضج.
من الورشات المتنقلة إلى صناعة الدفاتر، تتطور فكرتها يوما بعد يوم وتحاول ريم سعد ان تضع بصمة خاصة بها في مجال الحرف، وهي التي تلقت تكوينا فنّيا لكن الظروف التي صادفتها جعلتها تتعلم الصناعات اليدوية.
بين الفني والحرفي تتهادى فكرتها، وهي حريصة على اختيار أجود المواد الأولية التي تستعملها ليكون الدفتر بما هو فضاء للتعبير، لافتا للأنظار من خلال تفاصيله التي تحرص على أن تزيّنها بشغف ومحبّة.
صناعة الدفاتر، ليست مجرّد مشروع بل هو حلم سعت لتحقيقه لتستعيد توازنه الذي اختل بفعل الصعوبات التي تعثّرت بها لكنها لم تسقط وظلت تقاوم وتصقل فكرتها لتبدو على ماهي عليه اليوم.
اليوم، هي تنكب بنفسها على صناعة الدفاتر وتهيئ بكل حب وتفان طلبيات لا تتجاوز المائة دفتر في انتظار أن تمرر تجربتها التي اكتسبتها وتقنيات الصنع إلى حرفيات تكوّنهن كما كوّنت نفسها.
وفي " شمعدان" تتعانق الأصالة والحداثة في توجّه اختارته ريم سعد التي تتشبث بجذورها لكنها تتطلع دوما إلى الانفتاح، والدفاتر اليوم "سفيرة" تونس عند مؤسسات تونسية تعمل في الخارج.
 وبعيدا عن هذا المشروع الذي تسعى باعثته إلى أن يتسع أكثر ويكون مصدر رزق لحرفيات تكوّنهن بكل الحب الذي يملأ قلبها وتبثّ منه في كل ما تشكّل أناملها،نسجت ملامح  معارض شخصية تضم لوحات فسيفساء مائية. 
مستقلة عن كل الجهات، تبحث عن سبل لترى لوحاتها النور وتعانق محبي الفسيفساء المائية، وإن أفلحت قبل سنتين في أن تعرض بعضها فإنها اليوم تواصل رواية حكاياتها عبر هذا الفن دون أن تدق الأبواب الموصدة في وجوه الفنانين الشبان.
طريق صعبة اختارتها ومضت فيها عن قناعة، هي تعي أنها ستواجه صعوبات مادية وأنها يجب أن تتحلى بالصبر كي تتمكن من العيش بالفن ولكنّها تعي أيضا أنها تحيا بالفن وللفن.

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.