“ريش” في سجن برج الرومي.. أن تخلق جمالية من رحم القتامة

يسرى الشيخاوي-

على امتداد الطريق المؤدّية إلى سجن برج الرومي ببنزرت تتعانق خضرة الأشجار المتناثرة على الجنبات مع زرقة البحر والسماء فيبدو المشهد وكانه قطعة من الجنة، وفيما تلاحق الأعين الأشجار الشاهقة تستوقفها لافتتة كتب عليها سجن برج الرومي. 

هنا حيطان يستفزّك علوها وباب حديدي يخترق صليله أعماقك، تتخطاه فتطالعك لوحة فنية تحاول ان تصمد في وجه القضبان الحديدية، تغالب إحساسك بالاختناق وتمضي حيث القاعة المخصصة لعرض فيلم "ريش" ضمن اختتام أيام قرطاج السينمائية في السجون.

قبل ان تبلغ القاعة تشدّك إبداعات المودعين في السجن التي راوحت بين صناعات النسيج والجلد والخشب والحديد والألمنيوم وشباك الصيد، صناعات وجد فيها المودعون ملاذا وانغمسوا في تفاصيلها حتى تمكنوا من نيل شهائد تكوين مهني في هذه المجالات. 

ومن بين المودعين مولعون بالفنون، الموسيقى والرسم والمسرح والسينما وقد زينت لوحات بعضهم الحيطان وأضفت على رتابة السجن وبروده مسحة من الحلم والامل وحررتهم من القضبان.

وفي القاعة المخصصة للعرض تتراءى لك صور لممثلين وممثلات على غرار فاطمة سعيدان وهشام رستم وأحمد السنوسي والأمين النهدي وشادية وعادل الإمام وفاتن حمامة وعمر الشريف.

مع انطلاق الفيلم حجت إليه كل العيون وخشعت الأجساد وهي تلاحق تفاصيله، الأمر الذي تجلّى في النقاش الذي عقب نهايته والذي نم عن إمعان وتفحص في كل عناصره وكشف عن قدرة المودعين على الند والتحليل. 

و"ريش" المخرج عمر الزهيري، فيلم روائي طويل مداده من واقعية وفانتازيا أثار جديلا كثيرا لتعريته عوالم تزخر بالقبح والقسوة حتى أن البعض اتهمه بالإساءة إلى صورة مصر والحال أن الفيلم حائز على الجائزة الكبرى في مهرجان كان بفرنسا، وجائزة أفضل فيلم في مهرجان بينجاو السينمائي الدولي في الصين.

في فضاء ملؤه الأتربة والالوان الخافتة المراوحة بين تدرجات البني الشاحب والرمادي الفاقع، ألوان لا تتبين فيها الحقيقة من الخيال وعيناك تصطدمان بتفاصيل شقة تداعت جدرانها، بلاطها الرث تشرب الجبس المتسخ حتى شرق به، وطلاء الجدران لم يعد يقوى على الصمود اكثر فصار يتهاوى تباعا، والأثاث والوسائد والألحفة تنطق بالخصاصة والحاجة.

وسط كل هذا الخراب أم وزوجة (دميانة نصار) تعتني بشرون المنزل ولا تخفت حركتها أبدا وهي تلبي حاجيات زوجها(سامي بسيوني) وأبنائها الثلاثة، هي إمرأة بدت أشبه بالآلة لا تتكلم إلا قليلا ولا تبتسم ولكن عينيها تفيضان حزنا.

المرأة في الفيلم هي كل النساء اللاتي يواجهن السلطة الذكورية ويعشن الاضطهاد بتلوينات مختلفة، النساء اللاتي لا يسكتن على الظلم إلا لينتصرن لأنفسهن في النهاية ويقتلعن حقوقهن. 

والحكاية في ريش لا تخلو من العبث إذ يخلط عمر الزهيري كل الأوراق فجاة ودون إنذار بحدث سوريالي تشكّلت ملامحه حينما زج الزوج بجسده في صندوق خشبي ليكون جزءا من "لعبة" ساحر جاء ليسلي الأطفال فانقلبت الملهاة إلى مأساة.

الأب والزوج صار دجاجة، وفي اختيار الدجاجة عوض الديك دلالات  كثيرة انتصر فيها المخرج للمؤنث، ومع هذا التحول صارت مسؤولية الدجاجة والأبناء على عاتق الزوجة.

وعلى إيقاع فشل كل محاولات إعادة الرجل إلى هيئته الأولى، يتواتر النقد والسخرية من معضلات اقتصادية واجتماعية وإنسانية ومن وضعية المرأة في المجتمعات الذكورية التي لا ترى فيها غير جسد لقضاء المآرب على اختلافها.

مع اختفاء الأب لا يتغير الواقع ويبقى المنزل باليا على حاله ولكن الخارج بما يحمله من بيروقراطية واستغلال وقسوة ليس أفضل من تفاصيل المنزل الموغلة في الخراب، هو الواقع كما يتمثله المخرج ويعرضه بطريقة أشبه بالحلم الذي تحاول عبثا ان تمسك بكل تفاصيله فلا تقدر.

ففي "ريش" تعجز عن تحديد موقفك من الشخصيات فالحكاية لا تقوم على ثنائية الجلاد والضحية، الكل جلاد والكل ضحية في الآن ذاته ويحدث ان تجهز اكثر من توقع لمآل الأحداث ولا تصيب أي منها.

هي تمثلات وهواجس عمر الزهيري للواقع تخمّرت في ذهنه وترجمها إلى فيلم ريش الذي جعل الشخصيات فيه خيالات هائمة قابلة لأي ملامح، شخصيبات بلا أسماء يمكن أن تنتمي إلى ازمنة وأمكنة كثيرة.

خمسة أسابيع من التصوير، استغرقها الفيلم المختلف في طرحه وأسلوبه الإخراجي وحتى في الكاستينغ اذ اختار المخرج أشخاصا من خارج عالم التمثيل للقيام بالادوار ليضمن مسحة الواقعية في فيلمة ويقتنص لقطات طبيعية لأشخاص يقفون للمرة الأولى أمام الكاميرا ولكنهم أبناء بيئة لا تخلو من القسوة.

ومع تدفق الأحداث في الفيلم وتسلح المخرج بعنصر المفاجأة تتخذ الحكاية منحى آخر تهزّ المرأة عرش الذكورية، وتدير ظهرها لزوجها الذي عاد إلى الصورة ولا تهمل الدجاجة. 

طول الفيلم قد يرمي بك في غياهب الملل في بعض التفاصيل التي تبدو لك مكرّرة وإن كان له تبرير، فربّما أراد المخرج أن يبين ثقل الزمن على إمرأة تواجه أكثر من عدو بمفردها ولكن تبقى مشاهدة هذا الفيلم والاستماع إلى ملاحظات المودعين في سجن برج الرومي تجربة استثنائية تتوّلد فيها الجماليات من رحم القتامة.

 

 

 

 

 

 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.