بقلم: رشيد كراي
خلال سنوات النماء والخير والرّخاء "الترويكية" الثلاث التي أعقبت الثورة ورموزها "النيّرة" من النهضة وغنوشها ، والتكتل وجعفره ، والسي بي آر ومرزوقه ، والتي حذّرنا هذا الأخير من أننا سنندم عليها يوما وعلى حصّالتها العظيمة من الإنجازات الخارقة للعادة في شتى الميادين والمجالات ، برزت في المجتمع التونسي المنبهر بل والمتخمّر وقتها بمقولة "الناس اللّي هاربة لربّي" ، جملة من الأفعال والسلوكيات التي لم يعهد لها مثيلا في تاريخه الطويل ، وكأن يدا امتدّت إليه فاستبدلت شعبا بشعب آخر جديد ، دميم المنظر ، معوجّ السلوك ، سيء الأخلاق ، متوحّشا متحفّزا للإتيان بأحلك ما توعز له النفس الأمّارة بالسوء .
في تلك السنوات الثلاث التي حاول خلالها غزاة العصر الآتون من وراء البحار وهم يهلّلون بمقدم بدْرهم علينا ، مسخَ الهوية الحضارية التاريخية المتأصّلة في باطن التونسي ، أستذكر اليوم وقد عادت حليمة إلى عادتها القديمة ، وأنا كنت شاهد عيان على أغلب أحداث تلك الفترة ، جملة من الوقائع والسلوكيات ، التي تؤكد اليوم أن ما رأيناه يوم 14 نوفمبر في ساحة باردو وقبله بأيام في شارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة ، من توزيع للأموال وشراء للذمم ، هو سلوك متأصّل وثابت من ثوابت سياسة حركة الإخوان في تونس في التعامل مع الشأن العام .
مشهد عبّر عنه ببلاغة معبّرة ذلك الشيخ السبعيني المسكين وهو يلهث مردّدا بما أوعز له من دفع له "أنا ضد منظومة الفساد لكنّني مع النهضة" ، مع الإقرار هنا بعبقريتهم في تجديد الديكور وإسناد أدوار البطولة لغير أبنائهم ورموزهم ، عبر استئجار خدمات بعض شركات وشخصيات المناولة السياسية ، سواء كحوانيت حزبية فارغة لا تتعدّى تمثيليتها عدد مسؤولي مكاتبها التنفيذية ، أو كأفراد لفظتهم الحسابات السياسية لتبوّإ بعض المناصب الإدارية أو الاستشارية .
من جملة تلك الأحداث التي جدّت في سنوات الترويكا وأستحضرها اليوم وكأنّها حصلت للتوّ وكانت جهة صفاقس مسرحا لها ، حادثتان طريفتان مضحكتان كنت شاهدا على إحداها والأخرى رواها لي أحد أصدقائي الثقاة باعتباره كان بطلها والفاعل الرئيسي فيها ، والمشترك فيهما حضور المال الأسود وشراء الذمم والتغرير بمحدودي العقل قبل الدخل والتصريح في القول بما يناقض الهدف ، تماما كذلك الشيخ السبعيني ، بإيعاز وتدبير من ممثل حركة النهضة بصفاقس الشهير ونائبها بالمجلس التأسيسي وصاحب فتوى ختان البنات واعتبارها عملية تجميل.
الحادثة الأولى جدّت في أوج ما عُرف وقتها بحملة تطهير الإعلام والاعتصام الشهير أمام مقر التلفزة الوطنية وشعار "إعلام العار" ، حين نظّم شيخ صفاقس الشهير وكبار وصغار المشائخ بعماماتهم وجبايبهم ، وقلنسوة الرأس عند المصلّين المشاركين ، مسيرة حاشدة كانت انطلاقتها طبعا من أمام أحد المساجد المعروفة بعد صلاة العصر ، وكانت الوجهة كالعادة طبعا مقرّ الإذاعة الجهوية بصفاقس . خرجت يومها لأستطلع الأمر فاسترعى انتباهي وجود امرأة في الأربعين من عمرها تقريبا ، من بين المتظاهرين وهي تزبد وترعد وتردّد كلاما ما هو بكلام ولا حتى بصياح ، فتذكّرت أنها تلك الخرساء الشهيرة بالمدينة العتيقة التي كانت تتلقّى شتى أنواع المساعدات من الشعبة الدستورية في مختلف المناسبات ، وقد لبست الحجاب وتحوّلت بقدرة قادر إلى مناضلة نهضاوية تريد تطهير الإعلام وتندّد بإعلام العار الذي كانت واجهته الأولى الإعلام العمومي . والطريف أنه حين التقى بصرنا ، أومأت لي بسبّابتها ثم نفخت فمها هواء وجعلت تأتي ذهابا وإيابا بإصبعها الأوسط على أحد خدّيْها بما يعني أنني أنا وأمثالي من المشتغلين في الحقل الصحفي نبيع لها في الكذب والافتراء وتزييف الحقائق .
قلت في نفسي ولم أتمالك من الضحك المرّ ، سبحان من أطلق لسان هذه الخرساء الصمّاء فألهمها مَلَكَةَ التفريق بين إعلام العار وإعلام الشرف . وسألت بعد ساعات أحد الذين كان وسيطا في مساعدتها في "العهد البائد" عن قصّتها ، فقال لي لقد استقطبها أتباع شيخ صفاقس وأغدقوا عليها الأموال والعطايا بل وقاموا بترميم منزلها بملايين الدينارات ، وهي كما ترى أصبحت محجّبة وفي "كل مندبة تشد حبل" ويأتون بها في كل حدث وحديث ، وإبراز نفسها بأنها كانت من ضحايا النظام السابق والتجمع ، مع أنها كانت تعيش مستورة عكس الكثير من الفقراء وذوي الاحتياجات الخصوصية .
الحادثة الثانية كما ذكرت سابقا ، كان بطلها صديق لي من بسطاء القوم ، عامل يومي لم يكمل دراسته الابتدائية ، وهو على فقره وبساطة فكره ، طيّب وحلو المعشر ، فقد حدّثني عن دوره في حملة التحشيد والتعبئة التي قام بها أنصار النهضة بصفاقس لإحدى مظاهرات الحركة في العاصمة وقد اشتدّ عليها أيامها الضغط من كل حدب وصوب ، وكيف سلّموه مبلغ خمسمائة دينار لخاصّة نفسه على أن يقوم بجلب خمسين شخصا على الأقل لركوب إحدى الحافلات في الصباح الباكر للذهاب إلى تونس لقاء خمسين دينارا لكل شخص مع ضمان الفطور والماء والمُحلّيات "الشوكوطوم" . قال صديقي ، جمّعت العدد المطلوب من أصدقاء الحومة وأحياء أخرى من العاطلين عن العمل و"الخلايق والفصايل" والمدمنين على الخمر والمخدّرات ، وسلّمت لكل واحد منهم ثلاثين دينارا وأخذت عمولتي على كل "راس" عشرين دينارا ، أي بعملية حسابية كسبت مبلغ ألف دينار إلى جانب الخمسمائة دينار التي قبضتها من الجماعة ، وقد سهرت على ركوبهم الحافلات في الصباح ، ثم سلَلْتُ نفسي من الجموع ورجعت إلى منزلي . وهكذا عرفت أياما أنا وزوجتي من الخيرات أنواع ، وأنا أدعو للثورة بمزيد التأجج والإشعاع ، وللنهضة بمزيد تعكّر الأوضاع ، حتى تخرج للشارع ونتبلّل من ماء مطرها المُشاع ، ولذيذ كرمها المستطاع ، وطز في الصحافة والإعلام تلفزةً ومذياع ….