يسرى الشيخاوي-
ركح لا حدود له تماما كالذاكرة، خشبة بعضها تلامسه أقدام الممثلين وبعضها الآخر تلامسه أقدام الجمهور ولا حد فاصل بينهما، وكراسي تحيط بشيء يشبه الطاولة تشعر أنها تناديك لتترك كرسيك وتجلس في أحدها.
ستائر تنتفض لأنفاس الممثلين وتتبعثرعلى تفاصيلها ذاكرة جريحة، وموسيقى وترية تحاكي انتفاضتها وتسابق خطوات الممثلين وأصواتهم القادمة من الماضي والضاربة في المستقبل.
ديكور ترتسم ملامحه في قاعة المبدعين الشبان حيث كان الجمهور على موعد مع افتتاح تظاهرة الخروج إلى المسرح بالعرض الأوّل لمسرحية "ذاكرة" من إخراج الثنائي صباح بوزويتة وسليم الصنهاجي، المسرحية التي تسافر بالذاكرة إلى سنوات وسمها التعذيب وانتهاكات لا حصر لها.
وعلى إيقاع الرباعية الوترية للنمساوي شوبرت، تتناثر الذكريات حينما تنبش الشخصيات الثلاث في الذاكرة، ذاكرة مبعثرة تشبه خيوط شريط التسجيل التي لفتها إمرأة مغتصبة على سبابتها كأنها تشهدها على معانتها وعذابها المتواصل.
شريط التسجيل يضم اعترافا صوتيا لجلادها، لكن الضحية خرّبته بكل ما أوتيت من وجع فالضحية لا تريد اعترافا يظل سجين شريط تسجيل بل تريد اعترافا يسمعه الكل ولا يخفت صداه.
إلى جانب شريط التسجيل، تحيل مكملات ركحية أخرى على حقبة الماضي بقتامتها وسوادها ووجعها، هو المسرح ينهل من القضايا الوطنية ويحاكي هواجس الفرد والمواطن ويطرح سردية فنية للذاكرة الجريحة.
وفي مصافحة ثانية مع تفاصيل المسرحية، بعد أولى كان فيه مخاض "ذاكرة" على أشدّها إذ كانت بداية تشكل ملامح عناصرها، طرّز المخرجان سليم الصنهاجي وصباح بوزويتة المشاهد وشابكوا بين الضوء والموسيقى والخطوات والكلمات.
"سامحت أما ما نسيتش.. سهيت أما ما نسيتش.. كل شيء مدفون لهنا.. ما نحبش ننسى وما يلزمنيش ننسى.. يلزمني اعتراف في حجم اللي عشتو.. ما عادش نسمح باش نتجوع أكثر.."، تتحرّك عيون صباح بوزويتة قبل شفتيها وهي تلفط هذه الكلمات التي تعدّ تعبيرة عن وقع ردّ الاعتبار في نفوس الضحايا.
ألم ذاتي لإمرأة تعرّضت للاغتصاب في عهد بائد يغادر شرنقته ليصبح وجعا مشتركا، وجع ذاكرة مازالت إلى اليوم ترنو إلى ترتيب ثناياها وسط خيانات ومزايدات ومعارض للمبادئ في سوق التسويات والترضيات.
ومن خيوط الألم تنسج الشخصيات الثلاث في المسرحية، إمرأة ورجلان، ملامح حوار يتماهى فيه الماضي بالحاضر ويختلط فيه الفردي بالجماعي، وينصهر فيه السياسي والاجتماعي.
علل الوطن قبل الثورة كانت حاضرة على الخشبة، ولكنها لم تختف بعدها بل اتخذت تجليات أخرى، وكان للارهاب والفساد والمحسوبية والمحاباة امتداد لا ينقطع رغم الأصوات المنادية بالقطيعة مع السابق.
وفي تفاصيل النص الذي اقتبسته صباح بوزويتة عن عن "الموت والعذراء" للكاتب التشيلي "أرييل دروفمان" تتبدى العدالة الانتقالية واعتصامات القصبة وحملات مانيش مسامح بين ثناياه، في تعبيرات عن هواجس الفنانة الإنسانة التي تتقاسمها مع رفيق دربها سليم الصنهاجي.
والنص راوح بين المباشرتية والترميز وقام على ثنائيات كثيرة على غرار الصمت والكلام،الحق والباطل، العدالة والظلم، الضحية والجلاد، الماضي والحاضر، القوة والضعف، التغيير والتكلّس، الحاكم والمحكوم، ثنائيات تتمايز لكنها غير منفصلة عن بعضها البعض.
ضحية( صباح بوزويتة) وجلّاد (رضا بوقديدة) وبينهما "العدالة" في هيئة محام زوج ( علاء الدين أيوب)، ثلاثة شخصيات تنثر الملح على جراح ما تزال مفتوحة، الضحية تنشد الراحة والخلاص والجلاد يخلق العذر وراء العذر والمحامي يحاول حجب الشمس بطرف إصبعه.
ومع اهتزاز عرش الدكتاتورية يلتقي الجلاد والضحية وتتبدل المواقع وتتغير ويسري الوجع في ذات الضحية أكثر وأكثر وتنفتح المشاهد على كل السيناريوهات ووتنتفي حدود الزمن ويتشابك الماضي والحاضر والمستقبل ويتغذى القهر من الرتباك والرعشة.