ديمقراطية البيعة!

لم يكن مقترح حركة النهضة بخصوص التوافق حول مرشح لرئاسة الجمهورية يحظى بدعم الفرقاء السياسيين مجرد بدعة أو ضلالة حزبية كما يتبادر إلى ذهن البعض بقدر ما هو تعبير عن واقع من القصور الفكري ومنطق الوصاية والبيعة الذي ساد تاريخنا العربي والاسلامي.

ما تفتقت به قريحة قيادات النهضة ، وفي مقدمتهم الشيخ راشد الغنوشي ، لا يعكس الآليات التي تشتغل بها الحركة الاسلامية فحسب بل يكشف في غالبيته النقاب عن أزمة هيكلية عميقة تعيش على وقعها العديد من الأحزاب التونسية نتيجة غياب الديمقراطية الداخلية والقاعدية في ممارساتها وتمثّلاتها ولدى "أهل الحلّ والعقد" بتونس المحروسة.

هذا الأمر على وجه الخصوص يجعلنا لا نرى غرابة في صدور مقترحات من هذا القبيل. مقترح النهضة يؤشر بالمحصّلة إلى  لحظة لاواعية تنمّ عن الفهم الاسلامي التقليدي القديم للديمقراطية وفق منظور مهترئ تجاوزته المقاربات والرؤى السياسية المعاصرة. وهو يعكس عقلية حزبية قديمة سادت السياسات العربية منذ عقود عدّة.

على الرغم من التقاليد العريقة للحياة السياسية في تونس والتي شكلّت أبرز الكيانات الحزبية الناشطة في الساحة فإن هذه الأحزاب لازالت إلى اليوم أشبه في هيكلتها الهرمية بالتنظيم القبلي الذي يحتكر فيه الشيخ السلطة المعنوية والتقريرية. تسود الأحزاب السياسية التونسية في غالبيتها عقلية البنى العصبية والحظوة وشرف النسب وقوة المال وجبروت اللوبيات. هذه حقيقة لاجدال فيها إلاّ لمن رغب في الحذلقة والسفسطة وتزييف الواقع المرير.

إنّ اجتراح حركة النهضة لهذه الفكرة حول "الرئيس التوافقي" ستؤدي حتما في حال المضي في تطبيقها إلى تنصيب أحد "دناصرة السياسة" على قاعدة المبايعة والولاء لا على أساس الامتحان والاختبار الديمقراطي الحقيقي الذي ينطلق من المحلّي وصولا إلى المركزي. مثل هذه الطريقة في الاختيار المبنية على التوافق لن تفرز سوى نتائج جاهزة محسومة في الكواليس مسبقا تصادر حق الشعب في اختيار من ينوبه. 

هنا يكمن كنه الإشكال وجوهر الأزمة التي تحوّلت حسب ما يتراءى لنا إلى عاهة مستديمة أصابت الجسم الحزبي في المشهد السياسي في تونس حتّى بعد الثورة ليفسح بذلك المجال لتفشي نموذج هجين يمكن أن نبتسره في مقولة "ديمقراطية البيعة". هذه الديمقراطية المتفسّخة عن الثورة واستحقاقاتها تجلّت بوضوح في مقترح النهضة الآنف ذكره وهو ما يدعونا إلى التساؤل من جديد: هل بارحنا سقيفة بني ساعدة أم أنّ عقارب ساعة تاريخنا توقفت هناك عند تلك المحطة المفصلية؟

لامراء في أنّ المقترح الغريب الذي قامت بتسويقه حركة النهضة حول دعم مرشح توافقي للرئاسة بين فرقاء لا يعبّرفقط عن عقلية تقليدية تنبع من موروث البيعة في الثقافة الاسلامية ولكنّه يمثّل أيضا مناورة ومصيدة بطُعم واحد أُلقي أمام المتطلّعين إلى منصب رئيس الجمهورية. النهضة من أكثر العارفين بحجم التوجّس والضغائن التي تكتنف الأحزاب السياسية بيسارها ويمينها وبالتالي فإن عملية اختيار الرئيس التوافقي هي اسفين جديد قد يزيد من تهرئة علاقات الثقة والتنافس بين الطامحين للوصول إلى قصر قرطاج.

النهضة التي ستلقي بثقلها وكامل قوتها في الانتخابات التشريعية تعتقد أن أفضل وسيلة للتخلص من عبء الرئاسيات غير المضمونة هو اختيار شخصية عن طريق بيعة لا تسبّب لها صداعا مستقبليا. تحجيم دور أي مترشح مستقبلي للرئاسيات هو أحد تكتيكات الحزب الاسلامي على الرغم من كونها تعلم أنه وأيّا كان الاختيار فإن الذي سيصل إلى ذلك المكان سيحنّط بالنظر إلى شكل النظام الجديد الذي يقوم على تصوّر برلماني معدلّ. 

لم تعد تفصلنا عن موعد الانتخابات المرتقبة سوى بضعة أشهر ستكون وحدها كفيلة بكشف حقيقة مفادها أنّ مناورة سياسية من قبيل اقتراح انتخاب رئيس جمهورية توافقي ليس الا دقّا في اسفين التفرقة بين الاطراف التي تقف في الضفة المقابلة لطروحات الحركة الاسلامية. 

في كلمات قليلة وفضلا عن طابعه التكتيكي فإن مقترح الوفاق حول رئيس الجمهورية هو مصادرة صريحة لأبسط قواعد اللعبة الديمقراطية عبر اغتصاب الارادة الشعبية للمواطنين بفرض وصاية عليهم والحدّ من هامش اختيارهم بتصوّر فجّ وعقيم . هنا تستعمل حركة النهضة في الترويج لهذه الضلالة السياسية ، المتناقضة مع أهم المبادئ التي نادت بها الثورة ، كلمات جميلة من قبيل "لملمة الجراح وتوطيد أركان الوحدة الوطنية".

بالتأكيد فإن مقترحا من هذا القبيل لن يرى النور لأن التونسيين ليسوا حمقى ولأنهم ودّعوا ثقافة البيعة. لكن أفلا يدركون أم على قلوب أقفالها؟ 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.