دائرة المرسى قرطاج:أولوية المطالب الاقتصادية والاجتماعية كمعيار انتخابي للشباب

-آية جنان

جاءت الثورة التونسية حاملة آمالاً كبيرة للشباب التونسي الذي سعى جاهدا لتحسين وضعه الاقتصادي والاجتماعي، ولكن  رغم ذلك بقيت فئة الشباب في عزلة عن الحياة السياسية واتضح ذلك في مختلف المحطات الانتخابية التي عرفتها تونس بعد الثورة، حيث سجلت عزوفاً شبابياً كبيراً، ولم تنجح القوى السياسية التونسية في استقطاب هذه الفئة ما عدا الانتخابات الرئاسية التي كانت الاستثناء مع ظهور قيس سعيد في الساحة السياسية إذ لقي تأييدا واسعا من قبل الشباب ومع أول ظهور إعلامي أعلن فيه ترشّحه للانتخابات، تجندت المجموعات الشبابية للعمل في حملته الانتخابية من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، حيث يبدو أنه نجح في تقديم خطاب يتناسب مع متطلباتهم. 
*الانتخابات التشريعية 2019 الإقبال على صناديق الاقتراع
بعد الثورة التونسية سنة 2011 مرت البلاد بعدة محطات انتخابية أين شهدت إقبال كثيف من التونسيين وذلك على أمل التغيير والتعويض عن ويلات الاستبداد التي عاشها الشعب خلال فترة حكم زين العابدين بن علي، حيث بلغت نسبة تصويت المشاركة في الانتخابات التشريعية 41,3% وفقا للتقديرات الرسمية التي صرحت بها الهيئة العليا للانتخابات وتنافس في هذه الانتخابات نحو 15 ألف مرشح ضمن قوائم أحزاب وائتلافات ومستقلين متنوعين ومن اتجاهات سياسية  مختلفة وقد بلغ العدد الإجمالي للناخبين المسجّلين في التشريعية 7 ملايين و65 ألف و885 ناخبا، أما عدد المشاركين في عملية التصويت بلغ 2 مليون و946 ألف و628 ناخبا وتعد أولى العمليات الانتخابية الحرة في التاريخ وانبثق عن الاستحقاق الانتخابي بعد تسعة أشهر من الثورة، "المجلس الوطني التأسيسي".
رغم هذا الإقبال ظلت فئة الشباب منعزلة عن الحياة السياسية، إذ مرورا بهذه المحطات الانتخابية تقلص حجم إقبال الشباب على مراكز الاقتراع ولازالت في انخفاض لعدة عوامل أبرزها تهميش مطالبهم المتعلقة بالتشغيل وغياب الحلول الناجعة من قبل الأطراف السياسية التي مرت طيلة هذه السنوات وهو ما رسخ لدى الشباب قناعة إقصائهم وتهميشهم من الحياة الاقتصادية والسياسية.
إذ بلغت نسبة المشاركة في الانتخابات التشريعية لسنة 2019 41,3% وفقا للتقديرات الرسمية التي صرحت بها الهيئة العليا للانتخابات أين فاز حزب "حركة النهضة" بـ 52 مقعدا، وقدرت نسبة الشباب المقبلين على الاقتراع ب 13% وهي الفئة العمرية بين 18 و25 سنة و44% بين 26 و45 سنة و25 % بين 46 و60 سنة و18% للفئة ما فوق 60 سنة.

*المرسوم الانتخابي الجديد والشروط التعجيزية تقصي الشباب من الحق في الترشح
أصدر رئيس الجمهورية قيس سعيد المرسوم عدد 55 لسنة 2022  في 15 سبتمبر 2022 والذي نقح بمقتضى القانون المتعلق بالانتخابات والاستفتاء ويضبط هذا القانون سير العملية الانتخابية من بداية تسجيل الناخبين الى التصريح بالنتائج، وقد بدت بعض الشروط بالقانون الانتخابي الجديد تعجيزية بعض الشيء خاصة فيما يخص التزكيات إذ تفرض على كل مترشح الحصول على 400 تزكية وتتضمن التزكية جملة من التدابير الإدارية المعقدة منها التعريف بالإمضاء وغيرها وهو ما عرقل مسار الترشح للحصول على العدد اللازم من التزكيات.
 % 30 من هذه الترشحات غير مستوفاة للوثائق  و التزكيات وفق مرصد شاهد وأشار كذلك إلى أن  مطالب الترشح المقدمة في فترة التمديد تمثل نسبة ضئيلة من عدد المطالب الإجمالي للترشحات ولا تتجاوز 12,5%حيث بلغ عددها    178مطلبا مقابل 1249 مطلبا في فترة الترشّح القانونيّة، وان نسبة هامة من هذه المطالب المقدمة في فترة التمديد الاستثنائيّة تنقصها وثائق الترشّح تصل نسبتها إلى حوالي 30 % من إجمالي مطالب الترشّح في هذه الفترة وأغلبها حالات نقص في التزكيات  وفي هذا السياق قامت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات التمديد في آجال مدة استكمال التزكيات بثلاث أيام هذا وقد شهدت الدائرة الانتخابية المرسى قرطاج نسبة ضئيلة وفقا لآخر تحيين إذ بلغ عدد المترشحين 5 ذكور فقط  أمام غياب كلي للمرأة ضمن القائمة الأولية للمترشحين.

وفي هذا السياق يقول الخبير في القانون الدستوري مصطفى الحكيمي أن الشروط الجديدة في القانون الانتخابي تحرم الشباب من الترشح خاصة فيما يتعلق بالسن الذي يجب أن يكون من 23 سنة وما فوق وهنا تم إقصاء الفئة العمرية من 18 سنة الى 23 سنة هذا إضافة إلى الـ 400 تزكية في وضع سياسي صعب وفي ظل تراجع ورفض الأحزاب السياسية المشاركة في الانتخابات التشريعية التي كانت يمكن أن تقدم خزان انتخابي للمترشحين.

*الانتخابات التشريعية لسنة 2022: عزوف الشباب نتيجة تخوفات من مسار ديمقراطي فاشل 

اتضحت نسبة رضا التونسيين في محطات انتخابية سابقة أهمها الانتخابات الرئاسية التي عرفت إقبالا خاصة من فئة الشباب الذي انتخب قيس سعيد هذا الى جانب الاستفتاء على الدستور الجديد للبلاد الذي شهد تأييد بأكثر من 94.60 بالمئة أي ما يقارب 2.6 مليون ناخب صوت بـ"نعم"، تجددت هذه الثقة مع بروز قيس سعيد في مشروع سياسي جديد مليء بوعود لإنقاذ المطالب اقتصادية واجتماعية.
جزء كبير من الشباب قبل منطق قيس سعيد القائم على إعطاء أولوية للاستحقاقات الاقتصادية والاجتماعية على غيرها من الاستحقاقات، خاصة تلك المتعلقة بالحقوق والحريات لكن يجد الشباب اليوم يجد أنفسهم قد حرموا من أبسط الحقوق الاقتصادية التي كانت أولوية بالنسبة لقيس سعيد ليصطدموا بواقع اقتصادي واجتماعي هش.
ووفقا لدراسة صادرة سنة 2019 لمفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان حول الشباب والمشاركة الانتخابية في تونس: بعنوان " ثنائية القبول والنفور" حيث أفرزت إحدى نتائج لسبر آراء الشباب في الانتخابات باعتزال الشباب للحياة السياسية لهضم مطالبهم الاجتماعية وأهمها أميرة 23 سنة، طالبـة بالمعهـد العالـي للفنون والحرف تقول " إن التونسـي يتميـز بعقليـة " اخطى راسي وأضرب "، وبالنسـبة لـي أنـا شـخصيا لا أنتظـر شـيئا وقـد انتظـرت سـابقا ولـم يتحقـق شـيء. أمـا اليـوم فلقـد أصبحـت أنتظـر مـا سـيقع مــن مآســي فــي كل القطاعــات فــي الصحــة والتعليــم… فأنــا لــم أنتخــب ولا أريـد الانتخاب ولا يهمنـي الوضـع السياسـي بتاتا. فأنـا مقتنعة بالعـزوف عـن الانتخابات إلا ننـي لا أريــد أن أصــل إلـى خيبـة الأمل بـأن لـدي انتظارات ولـم تتحقق".

وقد أثارت هذه الدراسة عدة نقاط أهمها أن شباب اليوم يواجهون عوائق فــي ســبيل  ممـارسة كامــل مواطنتهم الفاعلة أيضا مـا يعيشـونه مـن خيبـات أمـل ومـن أحـلام خابـت علــى اعتبــار أنهــم مجبرون ليجدوا أنفسهم وجهـا لوجـه مـع الحيـف الإجتماعـي وفـي نقـص فـرص الالتـزام المدني والسياسي إضافة إلى البطالـة.

 

وفي هذا السياق يفسر الدكتور في علم الاجتماع سامي نصر بأن العزوف عن الانتخابات له  أصناف  متعددة أهمها : الداعم والأغلبية الصامتة والرافض وقد عبرعن العزوف بأنه حالة مرضية وهي على حد تعبيره رفض للوضع الحالي الذي يعيشه الفرد في الرقعة الجغرافية التي ينتمي إليها وهو ما يفرز حالة من الإحباط واليأس من القدرة على التغيير هذا وقد لقبهم ب"الأغلبية الصامتة " الذين تتولد لديهم النقمة والنقمة المضادة   وعدم الرغبة في الإدلاء بأصواتهم أو إبداء آراءهم في الوضع الحالي هذا ومن جهة ثانية يوضح الخبير أن غياب الدراية و المتابعة للشأن العام يمكن أن يولد العزوف لدى الفرد، الى جانب الضبابية أي عندما يكون المواطن غير مضطلع وغير قادر على فهم المشهد السياسي، بالإضافة الى التشكيك وغياب الثقة في المرشح وهو ما يحيل إلى صعوبة الحكم والتغيير وصعوبة الاختيار أيضا تفاقم ظاهرة الفردانية مما عبر عنها ب"أخطى راسي وأضرب " أي غياب كلي للاهتمام بالشأن العام  ويسعى الفرد هنا الى التفكير
 في المعيش اليومي والظروف الاقتصادية التي يعيشها وهي التي تجعل المواطن لا يعتبر الحياة السياسية من ضمن أولوياته .وهذه الأسباب تنمي ثقافة وعقلية اليأس والإحباط والرفض للوضع  الحالي مما يفرز العزوف.
ويوضح الخبير في هذا السياق أن كل الانتخابات التي خاضتها تونس سابقا لم تكن انتخابات عقلانية بل كانت انتخابات انتقامية مثال انتخابات 2011 أين وقع الانتخاب انتقاما من النظام البائد وذلك من خلال تكريم التونسيين لمن اعتبروهم ضحايا النظام البائد.
أما في السياق المتعلق بالعزوف عن الانتخاب يقول أحد متساكني المرسى "البحر الأزرق "  أشرف، 22 سنة عاطل عن العمل " هذه الدولة لم تقدم لنا سوى الوعود الزائفة  وفــي الوقــت الحالي وبهذه العقلية لن يبقى أي شاب في تونس، خاصة في الأحياء المهمشة في المرسى اعتمد البعض الهجرة الغير الشرعية نحو صربيا والبعض الآخر على بيع المخدرات أو "البراكاجات" والسرقة لتحصيل قوتهم اليومي وذلك لغياب  العمل واستغلال المشغلين  "
وتضيف مروى، 25 سنة كاتبة لدى محامي " منـذ أن قمنـا بالانتخابات كنا نظن أننا قـد سـاهمنا فـي التغيير، ولكـن أصبنـا بخيبة كبيـرة من حزب النهضـة وحزب النـداء، ومـا راعنا هـو تواصـل حزبيـن في صـراع وإقصاء التنميــة والتشغيل " 
*تداعيات هشاشة الوضع الاقتصادي والاجتماعي على الحياة السياسية 

الإقصاء الاقتصادي والسياسي والحرمان الاجتماعي في تونس أفرز ارتفاعاً في أعداد المهاجرين بطريقة غير نظامية، بالإضافة إلى نسب الانتحار التي رغم انخفاضها لا زالت في تفاقم ويرتبط عموماً بعدة عوامل أهمها هشاشة الوضع الاقتصادية والإجتماعي،التي أثرت بشكل مباشر وحاد في مزاج المواطن  مما إنعكس على وحالته النفسية وبالتالي أصبحت تتحكم بالانفعالات الجمعية وحتى الفردية سلباً وإيجاباً، وهي ترسم إتجاهات الأمل والإحباط أو اليأس لدى فئة كبيرة من الشباب.
*نسب الانتحار في تونس خلال السنوات الأخيرة

بالإضافة لذلك فقد شهدت البلاد مؤخرا موجة من الهجرة غير الشرعية  بشكل ملحوظ في الأشهر الماضية،فقد تحولت اليوم ظاهرة " الحرقة "من مغامرات فردية إلى مشاريع عائلية، بسبب الوضع الاجتماعي الهش الناتج عن سوء الظروف الاقتصادية في البلاد كالبطالة وضعف المداخيل الشهرية للفرد. 
الشباب التونسي الذي عانى قبل 2011 وبعده ويلات التهميش والإفقار والسأم من الوعود الزائفة وغلاء المعيشة لم يجد حل سوى عبور البحار نحو المجهول فقد انتظر التونسيون من الحكومات المتعاقبة إيجاد حلول جذرية لمعاناتهم، لكنها بقيت حبرا على ورق.
أوضاع حكمت على الشباب بالموت أو ببداية جديدة خارج أرض الوطن فقد عوامل تضافرت هذه العوامل تجعل من الشاب اليوم  يعتزل المشاركة في الحياة السياسية ويختار حل أزمته بنفسه، إذ سجل المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية وصول أكثر من 13500 مهاجر غير نظامي تونسي إلى السواحل الإيطالية منذ بداية السنة الحالية ويتوزع هؤلاء وفق المرصد الحقوقي بين أكثر من 2600 قاصر ونحو 640 امرأةً مع وجود تقديرات بمهاجرة أكثر من 500 عائلة، ويقول المرصد إنه سجل منع السلطات التونسية لأكثر من 23500 مهاجر غير نظامي من الوصول إلى السواحل الإيطالية من خلال إحباط أكثر من 1800 عملية اجتياز منذ بداية سنة 2022.

 

وفي سياق متصل سجلت نسبة التضخم، رقما قياسيا جديدا ليصل معدل التضخم السنوي في تونس إلى 9.1% في سبتمبر من 8.6% في أوت، مسجلا أعلى مستوى له منذ التسعينيات، بحسب بيان للمعهد الوطني للإحصاء، وهو ما دفع عددا كبيرا من الخبراء الى إطلاق تحذيرات من تداعياته الوخيمة على المقدرة الشرائية للمواطنين خاصة في ظل أزمة اجتماعية ومالية متفاقمة وفعلا 
انعكس ذلك سلبا على المواطنين الذين تدهورت قدراتهم الشرائية مع زيادة أسعار المنتوجات أمام مدخول مالي ضئيل خاصة بالنسبة للعائلات محدودة الدخل. 

وفي هذا السياق يقول الخبير في القانون الدستوري مصطفى الكريمي أن الوضع الاقتصادي الهش قلل ثقة الشباب في الطبقة السياسية اذ ان هذه الفئة سبق لها أن قامت بالتصويت بكثافة في الدور الثاني لصالح قيس سعيد ولم تجد أي تطور أو تغيير فيما يخص أوضاعهم الاجتماعية ويضيف أن الشاب التونسي اليوم أصبح يفكر في الهجرة الغير نظامية إضافة الى أولويات أخرى أكثر أهمية عدى المشاركة في الحياة السياسية سواء كان بالترشيح أو الانتخاب. 

*غياب المجتمع المدني يعزل شباب دائرة المرسى-قرطاج عن الحياة السياسية 

بعد نحو أكثر من شهر على إصدار الرئيس قيس سعيّد مرسوم تعديل القانون الانتخابي في 15 سبتمبر، ومع صدور القائمة الأولية للمترشحين للانتخابات التشريعية، لم يتمكن شباب مدينتي المرسى و قرطاج من معرفة الخمس مترشحين عن هذه الدائرة الانتخابية وما هي مشاريعهم تحديدا، ويندرج ذلك ضمن عدة أسباب أهمها غياب المجتمع المدني في المنطقة الذي يضطلع بدور مهم في تحفيز الشباب وتوعيتهم بأهمية الانتخاب ففي ظل مشهد سياسي تتخلله تجاذبات نجد اليوم العديد من المنظمات والجمعيات مقاطعة لهذا المسار الانتخابي.

مشهد سياسي قاتم وضبابي انعكس على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للتونسيين اليوم أمام غياب خارطة طريق واضحة للنهوض بالوضع الهش للشباب الذي اختار اعتزال الحياة السياسية والانتخاب نتيجة انتظاراتهم لتحقيق مطالب ظلت عالقة.

 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.