خالد شوكات يكتب لـ”حقائق أون لاين”: قميص “نقض” وهشاشة تيار المصالحة

ما نزال بدل التسلح بالجدية والمسؤولية داخل حركة نداء تونس…

ما نزال بدل التسلح بالجدية والمسؤولية داخل حركة نداء تونس، نميل إلى الحلول السهلة في خلق التميز عن الآخر الشريك في الوطن، ولئن كان مبررا الالتجاء إلى خطاب "الضد" أيام الترويكا لمواجهة إمكانية استفراد حركة النهضة بالحكم وتصحيح حالة الاختلال التي شهدتها الساحة السياسية، فإن إصرار البعض على محاولة تكرار التجربة والتعسف على مسار التاريخ بالالتجاء إلى تذكية خطابات العداوة والضدية لن يكون برأيي إلا من قبيل اللعب بالنار ودفع البلاد دفعا إلى أجواء الفتنة الأهلية من جديد، في وقت نحن مطالبون فيه بمراكمة انجازات السنوات الماضية والعمل المشترك على تجذير نظامنا الديمقراطي الناشئ وترسيخ قيم الحوار والتوافق والمصالحة. 

إن الضعف يعترينا جميعا، ولئن أكدنا لشركائنا في حركة النهضة الإسلامية على أهمية التخلي عن منطق الإقصاء وتبني المصالحة الوطنية وتجاوز آلام عقود من الحقب التسلطية والاستبدادية الماضية والسعي إلى المحافظة على مكتسبات الجمهورية والتركيز على الاستحقاقات المستقبلية والعمل من أجل تأمين مسار الانتقال الديمقراطي، فإن هذا الأمر لا يجب أن يعني لمن تمت الدعوة لإدماجهم في مشروع تونس الجديدة، أن يخطئوا في تقدير أنفسهم أو حجمهم أو يتغاضوا عن أخطاء الماضي أو أن يقعوا فريسة "النوستالجيا"، أو أن يعودوا لتبني أبشع ما ورثناه عن النظام السابق، ثقافة البغض والتخوين والتشكيك، التي دفعت بآلاف التونسيين إلى السجون ظلما، وضيقت على مئات الآلاف من العائلات لسنوات، ودفعت مئات النشطاء السياسيين إلى المنافي، وقسمت المجتمع إلى طائفتين وجعلت الأب والأخ والجار والصاحب يتجسس بعضهم على بعض ويكتب بعضهم التقارير في بعض. 

لقد ذكرتني بعض الأصوات، وأنا أتابع الحكم الصادر في قضية الشهيد لطفي نقض، بأصوات لطالما تكررت على مدار تاريخنا العربي الإسلامي، منذ رفع بعضهم قميص الخليفة الثالث عثمان (رض)، وانطلقوا في المطالبة بالثأر له، بينما كانوا أول من خذله ولم يهب لنجدته أيام حاصره الثوار في داره في المدينة، والكل يعلم أن رفع القميص ما كان إلا كما وصفه الخليفة الرابع علي بن أبي طالب كرم الله وجهه "كلمة حق أريد بها باطل"، كما الكل يعلم كم من دماء سالت ظلما وعدوانا وحراما باسم الثأر لعثمان منذ ذلك الحين، وعثمان منها براء، فإذا ما اعتبرنا أن دم الشهيد لطفي نقض لم يذهب هدرا بصرف النظر عن نتيجة محاكمة المتهمين بقتله رحمه الله، وأن هذا الدم إلى جانب دماء الشهيدين شكري بلعيد والحاج محمد البراهمي ودماء آخرين من أبناء المؤسستين العسكرية والأمنية والمجتمع المدني، هي من عمدت الطريق لتونس حتى تستمر ديمقراطية ولا تذهب إلى الفوضى أو تنتكس إلى الوراء، فإن ذلك يكفي الشهيد نقض وسائر الشهداء ليناموا هانئين في مرقدهم، وسيخلدهم التاريخ كبناة وطن لا كأسباب فتنة أهلية يمكن أن تأكل الأخضر واليابس.

لقد أبانت هذه الأزمة عن هشاشة القناعة الديمقراطية لدى كثير من أبناء النخبة السياسية والثقافية، ممن تعالت أصواتهم مطالبة بالتدخل في قضاء اعتبرناه جميعا، وكتبنا ما اعتبرناه في دستورنا الجديد، بأنه سلطة مستقلة وبأنه لا سلطان على القضاة إلا لضمائرهم، كما أبانت الأزمة أيضا عن هشاشة تيار المصالحة الوطنية سواء داخل حركة نداء تونس التي أتشرف بالانتماء إليها، أو في المشهد الحزبي والسياسي بشكل عام، وبدا الأمر معه وكأن "المصالحة" لم تكن إلا مؤامرة حاكها الشيخان ابتداء في لقاء باريس، وانتهاء بتشكيل الحكومة الأولى في الجمهورية الثانية، وإنه لمن العار أن تكون النزعة "الطائفية" هي الغالبة على نفوسنا وطريقة تفكيرنا وتقييمنا للأشياء، على نزعة التوافق والتسامح والشراكة في بناء الوطن التعددي الديمقراطي الاجتماعي الموحد. 

فجأة أصبحنا طائفتان، وأضحى بعضنا ينادي بتفعيل شريعة الغاب وتجاوز الأحكام القضائية والأخذ بالثأر مباشرة باليد الذاتية لا عبر الوسائل القانونية، كما تبارت بعض الوجوه الكالحة من الطرفين في بيان عورات الآخر، فأحدهما يقول "أن الخوانجي عنيف وإرهابي لا يتغير"، ويرد عليه الثاني بأن "التجمعي واليساري استئصالي بطبعه ولا خير يرجى منه"، وقد تهجم علي بعض هؤلاء عندما حذرت من مساعي لدفع بلادنا إلى ما دفعت إليه من حولنا بلاد شقيقة، بحجة أننا متجانسون دينيا ومذهبيا وقوميا ولغويا، وهو ما يعدم برأي هؤلاء قاعدة لحرب أهلية ممكنة، قيل أنها لا توجد إلا في مخيلتي، متناسين أن دولا كثيرة متجانسة عرفت فتنا وصراعات مسلحة مدمرة على أساس انقسامات سياسية وايديولوجية طارئة، فلنتعظ ولنتقي الله في بلادنا ولنترك القضاء مستقلا يقول كلمته الفاصلة وليكن الحكم بيننا المؤسسات والقانون وليكن صراعنا حضاريا في مستوى تقدير العالم بأسره لتجربتنا، ولنكف عن خطابات التحريض والتخوين والمزايدة في حب الوطن، ولنخجل فعلا من دماء الشهداء، فلا نسخرها لخدمة أجنداتنا الضيقة وعقدنا النفسية والايديولوجية وانحدارنا الفكري والأخلاقي..حفظ الله بلادنا من شرور أنفسنا، إذ لن يلحق الأذى بتونس إلا بعض التونسيين. 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.