حكايا ذات 27 جويلية 2019.. وتونس الاستثناء

 أمل الصامت –

قد يسيل حبر قلمك تعليقا على موقف ما أو حدث تعيشه في لحظته دون أدنى تفكير في ما إذا كان سيفهم كما هو أم سيتم تأويله وفق ميولات معينة وتوجهات خاصة، وقد تخيّر التريث لتستطيع جمع كل زوايا الصورة في مشهد واحد ثم تطلق العنان لمشاعرك تنساب رقيقة متوهجة في آن، ولكن النتيجة ستكون حتما رائعة لأن الأحاسيس هي وحدها من سيتحكم في عباراتك وتعبيراتك.

المشهد يبدو فلسفيا ولكن الأمر يستحق، فتلك المعادلة الصعبة، التي يستطيع الشعب التونسي حلها في أصعب الاختبارات على الاطلاق في كل مرة، لا يمكن إلا مناقشتها بطريقة فلسفية تجمع بين المنطق والحجج المنظم سياقها.

72 ساعة فقط مرت على مواراة جثمان الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي الثرى بعد موكب جنازة وطنية مهيبة واكبها العالم دون استثناء ذات 27 جويلية 2019.

نعم هي بضع ساعات مرت منذ عاشت تونس مشهدا يليق بها بعيدا عن التجاذبات السياسية وخطابات التفرقة.. بعيدا عن أخبار ملفات الفساد والجرائم البشعة والتهديدات الارهابية.. بعيدا عن البلاتوهات التلفزية الغارقة في عفن السياسويين.. مسافات وأزمان فصلت تونس شعبا وأمنيين وعسكريين ومعارضين للسلطة وموالين لها، نساء ورجالا، كهولا وشبابا وشيوخا، فقراء وأغنياء، من اعتادوا حياة الليل ومن يعتبرونه وقتا للسبات، سكيرين ومتدينين… وكأنه يوم الحشر، الكل فيه رغم اختلاف الهيئة والأجناس على نفس الدين.. دين الراية الوطنية، حتى عبروا الصراط جميعا إلى جنة تونس الأبية.

كانت الساعة التاسعة صباحا تقريبا عندما بدأ صدى وقع خطوات الوافدين على مقبرة الجلاز من المواطنين يختلط بصدى وقع خطوات العسكريين والامنيين الذين جاؤوا لتأمين هذا الحدث الوطني الممزوج بالألم والأمل.. الحرارة تجاوزت يومها الأربعين بـ6 درجات، ولكن ساعات انتظار وصول موكب الجنازة، التي دامت اكثر من خمس ساعات او ربما أكثر بالنسبة للبعض، كانت مليئة بالحكايا.. أو ربما هي قصائد إن نثرتها غدت ديوانا عنوانه "الخضراء".

الكل ترحم على الرئيس الراحل بطريقته.. زغاريد حينا وترديد للنشيد الوطني تارة وأصوات شدت أغان وطنية طورا وتحية إكبار لحماة هذا الوطن من عسكريين وأمنيين بين الفينة والأخرى.. باختصار هي معزوفة إن اختلفت "نوتاتها" شكلت موسيقى متناسقة أنغامها وكأنك في حضرة سمفونية بإمضاء أعظم الشعوب، شعب تونس الاستثناء بكل المقاييس.

هاهي ساعات الانتظار تتبخر وسط الأعداد الغفيرة الواقفة على جانبي الطريق خلف حواجز حديدية وضعت وفق ترتيبات محددة من وزارتي الداخلية والدفاع، وهاهي أصوات الطبول يقرعها أفراد طاقم الموسيقى العسكرية تقترب شيئا فشيئا من مقبرة الجلاز التي أصبحت مكانا رمزيا يغمّد ترابه جثامين بشر غابوا بأجسادهم ولكن التاريخ خلدهم، فإذا هم ماتوا عاشت تونس التي قدموا لها الكثير.

فقد يكون مثلا لعلي باش حانبة ولعبد العزيز الثعالبي وللمنصف باي ولأحمد التليلي ولشكري بلعيد وللباجي قائد السبسي -والقائمة تطول لمن دفنوا تحت تراب "الجلاز"- توجهات سياسية وفكرية يعارضها البعض إلا أنهم تركوا وراءهم مشاهد لحمة وطنية، ستظل في الذاكرة ولن ينساها التاريخ لقرون.

وتلك الصور التي وثقتها عدسات الصحافة المحلية والأجنبية يوم 27 جويلية 2019، هي نفسها أكبر دليل على ذلك.. مشاهد تبعث على الفخر بأنك تنتمي لشعب يحب بلده كما لا يحب البلاد أحد، ليتحول الفخر إلى عزة في مشاهد أبطالها أمنيون وعسكريون، وحتى الشخصيات السياسية والوفود الأجنبية التي رافقت موكب الجنازة مرورا بشارع محمد الخامس وصولا إلى مقبرة الجلاز، طبعت مشهدا لا يقل شموخا عن باقي المشاهد.

مشاهد تحمل حكايا وإن نقصها اليوم بشيء من الاندفاع لحماسية اللحظة، مؤكد أننا سنرويها للأجيال القادمة بنفس المشاعر المتوهجة وربما أشد توهجا، فلعلنا حينها نكون خططنا في كتب التاريخ صفحات أخرى عن تونسنا المتفردة وشعبها المتميز.

 

 

 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.