“حضرة وصل”.. عن التجليات الروحية للموسيقى

 يسرى الشيخاوي-

 
"هي الأرواح التي لا ينقطع وصلها، إذا أعيتها الحياة  فالبسمة هي مصلها، هي سر البقاء والفرحة هي أصلها"، كلمات غنّتها "الغجرية" غالية بنعلي ليترجمها جمهورها الذي لبّى نداءها إلى "حضرة وصل " على ركح مهرجان قرطاج الدولي.
 
كعادتها، تبدو "بنت الريح" غير مبالية بالعالم المادي من حولها، تتمايل وتتأرجح على إيقاع موسيقى تداعب شغاف الروح، حافية تعانق قدميها المسرح الأثري ويهتز شعرها الغجري وتسافر بين ثنايا نوتات فيما الجمهور يحيّيها على طريقته، وتماهت النوتات والهتافات بالتصفيق، وتواصلت أورواح غالية ومحبّيها.
 
هي حالة فنّية موغلة في عالم الموسيقى الروحية، وفيةّ لإطلالتها الغجرية وأدائها وأزيائها وحركات يديها التي تحاكي رقصات الغجريات عاشقات الحرية حينا ودوران الدروايش الباحثين عن أسرار العشق الإلهي، قد تختلف التقييمات بشأن صوتها فللناس فيما يعشقون مذاهب، ولكن لا يختلف إثنان في كونها أوجدت لنفسها عالما موسيقيا لا يشبها إلّاها.
 
بالوقوف عند الاغاني التي قدّمتها غالية بن علي على ركح قرطاج، تلاحظ أنّها نفس المدوّنة التي لجأت إليها في حفلها في مهرجان الحمّامات الدولي في السنة الماصية، مع اختلافات بسيطة، والأمر يعود إلى الظرف الاستثنائي الذي عايشته تونسي إبان رحيل رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي الذي تسبب في تأخير العرض.
 
ففي "حضرة عشق"، التصوّر الأوّل للعرض، كان من المالكلاسيكيات الغربية، حاضرة أيضا، في السوبرانو" بية دوولز" التي سترافق الغجرية في الغناء، وستتحاوران بلموسيقى وتمدّان جسرا بين الغرب والشرق مداده العشق والحلم، ولكنّ تأجيل العرض حال دون ذلك وتعذّر معه حضور بعض الموسيقيّين الأجانب الذي شاركوا غالية بن علي نوبات جنونها على المسرح.
 
بعيدا عن صوت غالية بن علي وسلوبها الغنائي المتفرّد ومشاكستها لجمهورها بين الفينة والاخرى، فإنّ لـ"حضرة وصل" كثير من اسمها، إذ وصلت بين آلات وسيقية متنوعية، وخلفيات ثقافية وحضارية مختلفة، ورؤى موسيقية متفرّدة، امتزجت على ركح قرطاج الذي كان فضاء للوصل والفن.
 
في رحاب المسرح الأثري بقرطاج، كانت الموسيقى الروحية سيّدة المكان، وملأت الحوارات المتناغمة بين الإيقاعات والأنغام الأرجاء، والتقى موسيقيون من تونس والمغرب والسينغال ومصروفلسطين والعراق وبلجيكيا في عرض لفنانة تونسية.
 
النوتات تنساب من أرواح العازفين الذين يحملون في قلوبهم بعضا من بلدانهم قبل أن تداعب أناملهم الآلات الموسيقية، لتكون الموسيقى مزيجًا من "الجاز" و"السيتار" و" الفلامنكو" والإيقاعات الإفريقية والشرقية والتونسية، ويرافقها صوت غالية بن علي تغنّي الموشّحات والكلاسيكيات العربية وتحتفي بالحب أنّى توجّهت ركائبه.
 
وهي تغنّي، تتبادل غالية بنعلي "الحديث" مع الآلات الموسيقية المرافقة لها، تغازل الكمان، وتشاكس الإيقاعات، وتناجي العود، وتسارر الكمان، وتداعب السكسفون، فتنساب النغمات هادئة حالمة قبل أن يتعالى "صخب" الإيقاعات لينشئ لقاؤها "ريتما" موسيقيا يغوي بالرقص.
 
موسيقات مختلفة، وسمت " حضرة وصل"، ووكانت إحدى سمات تفرّدها، وإذ أنامل علي شاكر (العراق) لامست القانون سافرت أنغامه بالجمهور إلى عالم الحب والشجن، وإذ محمد الغربي (تونس) وأيمن عصفور(مصر) غازلا الكمان انسابت نغماته رقيقة وديعة، وتسايرها نغمات الكونترباص العاشقة الحالمة إذا ما نجاها فانسون نواري (بلجيكيا) لتلتحق بها نغمات العود الشجية الساحرة إذ ما صافح بشير الغربي(تونس) أوتاره، وتؤنسها أنغام الساكسفون إذا بث فيها ابراهيم عبد الباري (مصر)، وتعلو في الأثناء نغمات إفريقية يحدثها ماليك دياو (السينغال)، وأخرى هندية إذا ما ضرب خالد كوهان بيديه على الطبلة الهندية، أما إذا صافحت أكف ناصر سلامة (فلسطين) ونعيد عبد الله (تونس) وبلحسن سوني (تونس) الآلات الإيقاعية، فإنّك أمام محاكاة لأصوات الحياة.
 
وعلى ركح قرطاج، كانت الموسيقى الروحية مسكرة، ووولد تماهي الآلات الموسيقية القادمة من حضارات مختلفة توليفة موسيقية انتشت بها غالية بن علي وجمهورها الذي لازم المدارج حتّى بعد انتهاء الوقت المخصص للعرض، لتجازيه الغجرية بـغناء "سيدي يا بابا" و"لاموني اللي غاروا مني".
  
 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.