16
يسرى الشيخاوي-
أنت فرد في عالم تفاعلي، أنت في مسرح كبير تختلف فيه الإضاءة باختلاف الأزمنة والأمكنة والشخوص التي تتبدل بتواتر الأحداث، أنت تقف في المنتصف بين الأبيض والأسود وتراقب هالة الألوان التي تحرّكها أياد خفية في كواليس النظام السياسي.
أنت تبكي وتستاء إذا ما جدّت عملية إرهابية أو حريق أو فيضانات أو حادثا مأساويا، وتضحك وتسعد إذا ما انتصر منتخب كرة القدم أومرت الانتخابات بسلام، تجتاحك سيول من المشاعر المتناقضة وأنت ترقب الأحداث التي لا تخلو بعضها من مفاجآت مربكة، ولكن هل تساءلت يوما عن المخرج الذي يتحكّم بأزرار الإضاءة ويرتّب المشاهد وفق أهوائه؟
من الذي يتلاعب بالضوء ودرجاته في المسرح الكبير، الذي أنت جزء منه، من الذي يحرّك الضوء تارة في اتجاه اليمين وأخرى في اتجاه اليسار، من الذي يحدّد إلى أي الجهات ينظر الجمهور، من الذي يطفئ الضوء تماما ولا يترك لك غير ذلك البصيص من النور الذي ينبثق عن بقايا أمل يسكنك، هي أسئلة تتزاحم في رأسك وأنت تجول بعينيك بين ثنايا قاعة الريو حيث تعرض مسرحية "حافظ ع النظام".
أنت الآن، في مواجهة الواقع السياسي عاريا، ترقب تذبذب درجة الإضاءة وانسيابية النص المسرحي الذي كان يرمز أحيانا ويشير أحيانا أخرى، وتنغمس في تفاصيل مسرحية كوميدية تتجلّى فيها خفايا النظام السياسي واضحة، رغم أنّ أحداثها من وحي خيال كاتب النص الحبيب بلهادي.
هي أحداث ابتدعتها قريحة الكاتب، خيالية ولكنها تلتقي مع الواقع حدّ التطابق، ربّما هي الصدفة، ذات الصدفة التي رمت بشخصية تتجاذبها مركّبات النقص في صدارة المشهد السياسي، شخصية سياسي تونسي تغزوها "التشوهات"، وكل تشوّه فيها يحيلك إلى الواقع السوريالي الذي يسم واقع السياسة في تونس منذ سنة أحد عشر وألفين.
وعلى امتداد ساعة من الزمن، تتأمل نظاما سياسيا عاريا، تزين الندوب كل تفاصيله وتملأ الفوضى تجاويفه وتنبعث رائحة الانتهازية من أنفاسه، وهو ينطق عن الهوى " حافظ ع النظام"، وإن كان موبوءا وإن كان قميئا وإن سقطت عنه ورقة التوت.
و"حافظ ع النظام"، عنوان حمّال أوجه إذ هو إحالة الأنظمة الكليانية التي تمارس الوصايا على الأفراد بغاية ضمان استمراريتها، وفيه أيضا إشارة إلى شخص بعينه برى نفسه، على خوائه، أرفع من النظام، وفي كل الاتجاهات تضعنا المسرحية وجها لوجه مع صناعة الدكتاتورية.
والعمل المسرحي الذي ينضوي تحت المسرح السياسي، يضع الإصبع على أحد مسببات أزمة الأنظمة السياسية في البلدان التي تتحسّس طريقها في الانتقال الديمقراطي، وهو العمل الأوّل لرباب السرايري بصفتها مخرجة، وأبطاله كل من جمال المداني، وأسامة كشكار، ووجدي البرجي ورباب السرايري.
وإن كان العمل المسرحي يقوم على التلميح والترميز في بعض المواضع فإنه في أغلبها، يشير إلى "سياسي" بعينه، ذلك الذي لا يجيد قولا ولا فعلا، ولا يصلح إلا لخلق "الشقوق"، وهو أيضا يجيد الخضوع لأمه " للا"، التي يبدو أنّها لا تتحكّم في مصيره فحسب وإنّما تسلّط أوامرها على كل المحيطين بها.
وفي طريقه الواهي إلى الحكم، لا يسقط ابن أمه نصائحها، ولا يتوانى عن قبول تلقّي دروس عند " لهلوبة" التي تشبه كل شخص انتهازي متسلّق يتلوّن وفق مصالحه وأهوائه، وإن كانت صورة السياسي التي يقدّمها " حافظ ع النظام" قابلة على الإسقاط على سياسيين مصابين بداء الكرسي، إلا أنّها تتطابق إلى حدّ التماهي مع ذلك السياسي الذي أحيى جدل التوريث من جديد.
ولا يغفل العمل المسرحي، الحديث عن دور القنون في صناعة الدكتاتوريات، ذلك أن طبيعة الفن من طبيعة النظم السياسية،مع بعض الانفلاتات التي تكون أحيانا عنوانا للتمرّد والثورة وأحيانا أخرى عنوانا للعودة إلى مربّع الاستبداد، فـ"لهلوبة" أستاذة فنون الكلام والحركة والخطابة التي كانت تحاول تشكيل معالم " الزعيم" القادم على مهل، لامست حضيض الواقع السياسي.
وان كانت، "لهبلوبة" (رباب السرايري) في الظاهر تستثمر الفرصة التي أتيحت لها لتدخل التاريخ من باب قد يكون في الدرك الأسفل، إلا أنّها في الباطن تعرّي مواطن الوهن في شخصية من يسمّي نفسه " المجاهد الأكبر"، وتسقط أوراق التوت عن شخصية أسيرة الهستيريا والفراغ، من خلال دروس عن الذاكرة والارتجال والتكيّف مع الفضاء العام وعن المظهر الخارجي لم يفلح فيها.
"والسياسي" (جمال المداني) الشبيه بقرية خاوية على عروشها، كان يجوب الركح عاريا إلا من حصانة أمه " للا" التي كانت سلطتها تعشش في كل الزوايا، وفي الأمر إحالة على الدور الذي تلعبه النساء في قلب موازين الحكم، وحتّى حارسيه الشخصيين ( وجدي برجي وأسامة كشكار) لم يفلّتا الفرصة لينزعا عنه جلده ليظهره داخله المتهاوي والهش جدّا، وهما لا يتردّدان في خوض تمارين "لهلوبة" محلّه كأن يلقنانه معنى الارتجال ويدفعانه إلى الحديث عن الصداقة، تلك العملة النادرة في عالم السياسة.
"أتريد حكم البلاد وأنت خالي الوفاض" كانت هذه الجملة كفيلة بأن تجعل "لهلوبة" رهن الإيقاف، فالتملّق والانتهازية وحتى الروابط القوية مع المقرّبين من السلطة تنتفي أنّى أصدحت بالحقيقة، وأنّى فشلت في أن تكون جسرا لعبور "فاشل" إلى "الصدارة".
والمسرحية الكوميدية بروح سياسية، وإن عرّت مواضع الخيبة في النظم السياسية، إلا أنّها حشرت مشروع "الزعيم" في الزاوية،والأصل أنه صناعة محيط كامل يتحمّل فيه الكل مسؤولية الأزمة، ولكنّ ذلك لا ينفي البعد الاستيتيقي الذي خيّم على الإضاءة والانتقال بين المشاهد وبين مقاطع النص بما تحمله من جدّ وسخرية وتمكّن الممثلين من تقمّص الشخصيات.