"عندما ركض نحوي و يده تنزف و استنجد بي قائلا: "صحابي قتلوهم، رد بالك على روحك"، لم افكر سوى في ان اساعده. نزعت غطاء رأسي لاكفكف دمه. ثم طلبت من ابني ان يحمله الى المستشفى". هكذا تتذكر الحاجة فطيمة ذلك اليوم المروع في تاريخها و تاريخ قبلاط (17 اكتوبر 2013) عندما قتل ارهابيون رئيس مركز الحرس و مساعده في حين هرب العون الثالث بعد ان اصيب في يده. وجد هذا العون،لحسن حظه هذه المرأة الشجاعة التي لم تبال بالخطر المحدق بها و فعلت ما في وسعها لتساعده.
لايزال اهالي قبلاط و ضواحيها يعيشون على هول ما رأوه طيلة ثلاثة أيام من الرعب اكتشفوا فيها وجود خلية تتكون من 15 ارهابيا كانوا يتواجدون بينهم ويحضرون لاغتيالات سياسية و لعمليات نوعية تستهدف مقرات سيادة و مراكز امنية ومواقع اقتصادية حيوية.
نفق طوله 10 امتار
المنزل الذي كان يحتضن هذه المجموعة كان يحتوي على امور مروعة. منزل يقع في ريف المدينة على بعد بضعة كيلومترات، تحديدا في منطقة دور اسماعيل، لا يوحي لاول وهلة بوجود اي خطر. هناك تم العثور على نفق بعمق عشرة أمتار تم حفره لاخفاء المتفجرات التي كان يصنعها الارهابيون في ساحة الدار، كما اعد الارهابيون مخبرا لهذا الغرض وهو عبارة عن مربعات من السيراميك ُوضعت على الأرض، يتم فوقها اعداد خلطة المتفجرات.الى جانب قطع السيراميك وجدت جانبا اكياس من مادة الامونيتر و "البخارة" والفحم. بعض المواد الاساسية لتصنيع المتفجرات.
حسب تصريحات الناطق الرسمي باسم وزارة الداخلية، محمد علي العروي اكتشفت وحدات الامن 2 اطنان من المتفجرات الى جانب اسلحة. و لكن هذه المتفجرات لم تكن موجودة فقط في هذا المنزل و انما ايضا في مخازن أرضية حُفرت في مزرعتين مختلفتين غير بعيدتين عن قبلاط. كانت الاولى على ملك شخص يدعى مكرم و هو ينتمي الى المجموعة والاخرى في منطقة تدعى" شيخ الوديان".
"لقد حالفنا الحظ اذ اكتشفنا هذه المجموعة مبكرا وهي في بداية تخزينها للمتفجرات والاسلحة. و إلا فإنها كانت ستأخذ كل وقتها للاستعداد للقيام بعمليات ارهابية واسعة النطاق" يشير مصدر أمني رفيع المستوى من منطقة الحرس الوطني بمجاز الباب.
ولكن كيف تمكنت هذه المجموعة من ان تقوم بكل هذه الاستعدادات دون ان يتفطن اليها احد الى حد يوم 17 اكتوبر؟
فلاحة وتربية ماشية؟!
بدأت القصة عندما شرع المدعو بلال (قتل خلال العملية العسكرية) و هو اصيل منطقة قبلاط، و كان يشتغل ببيع البنزين المهرب قبل ان ينتمي الى انصار الشريعة، بالبحث عن منزل ريفي بقصد تاجيره لتعاطي نشاط فلاحي و تربية الماشية. فقيل له ان هناك منزلا تركه صاحبه وذهب للاستقرار في مدينة مجاز الباب. طلب بلال من احد اقربائه و يدعى ابراهيم ان يتوسط له لدى صاحب المحل ليوافق على تاجيره اياه لمدة سنة غير قابلة للتجديد بمعلوم كراء قدره 110 دنانير. وهو ما حصل الا ان صاحب الدار، عبد الحميد، تفطن بعد يومين ان عقد الكراء لم يكن باسم "بلال" و انما باسم "ابراهيم" فعاد الى هذا الاخير ليطلب اعادة تحرير عقد آخر باسم المؤجر الاصلي اي "بلال".
تقول جميلة زوجة المالك الذي قبض عليه بعد العملية ان عبد الحميد لم يكن يعلم ما يحصل بالمنزل منذ ايجاره يوم 1 اكتوبر كما ان "بلال" طلب منه ان يعلمه في حال مجيئه بحجة ان زوجته امراة منقبة و ترفض ان تقابل الرجال.
شاحنة "الايسيزي" الليبية اثارت الشكوك
بعد ايجار المنزل حاول المتساكنون الجدد ان لا يثيروا الشكوك حول نشاطاتهم فكان بلال و غيره يخرجون كل يوم لرعي الاغنام. و لكن الحركة غير العادية التي كانت تسود المكان من حين لآخر و القدوم المتواتر لشاحنة من نوع "ايسيزي" تحمل لوحة منجمية ليبية، انذر الجيران بوجود شيء ما. فتم اعلام السلط المحلية.
"إن تحول رئيس منطقة الحرس الوطني بقبلاط الى المنزل المذكور كان في اطار اجراء عادي اصبحت قوات الامن تقوم به بعد تكرر العمليات الارهابية في البلاد و ذلك في كل مرة يقع اكتراء محل في اي مكان. و هو ما يفسر ان هذا المغفور له لم ياخذ معه تعزيزات امنية كبيرة- يبين مسؤول امني رفيع المستوى من منطقة الحرس بقبلاط – وبالفعل توجه محمود الفرشيشي ( 54سنة) ، رئيس مركز الحرس، الى عين المكان في دورية عادية مصحوبا بعوني امن. و عند وصوله طلب من صاحب المنزل الإذن بالدخول الا أن الاخير استمهله قليلا بحجة ان زوجته يجب ان تغطي راسها ثم عاد و فتح عليه النار فارداه قتيلا، هو و عون آخر في حين تمكن الثالث من الفرار.
الاحتماء بالجبل
حال اكتشاف أمرها، قررت المجموعة المتأتية في معظمها من الكرم و حلق الوادي والجنوب التونسي الى جانب منطقة قبلاط (3 اشخاص)، اللجوء لجبل التلة للاحتماء به. الا ان وحدات الامن تلقت المعلومة سريعا عن هروبها فسارعت الى تطويق الجبل لمنعها من التنقل الى مكان آخر قد يكون اكثر وعورة، لان جبل التلة مكشوف و يسهل تمشيطه. جاءت بعد ذلك تعزيزات من الجيش و بدأ القصف بالطائرات قبل ان يقع الالتحام فيسفر عن قتل 9 ارهابيين و تسليم احدهم لنفسه لينضم للثلاثة الآخرين الذين وقع ايقافهم في اماكن اخرى بعيدة عن قبلاط.
كانت رائحة دخان القصف الممزوج برائحة الدم لاتزال قوية حال وصولنا الى الجبل بعد يوم من انتهاء العملية العسكرية. وكانت آثار تبادل اطلاق النار و استعمال الغاز المسيل للدموع موجودة في كل مكان. امتلأ الجبل بالحفر و بقايا الرصاص المستعمل و بدت الاشجار المحترقة، شاهدة على حدة الاشتباكات التي دامت ثلاثة ايام. و لكن الملفت للانتباه كان وجود بقع من الدم المتخثر و بعض أدباش الارهابيين، ملابسهم و احذيتهم، و كأنهم لم يبرحوا المكان.
تحول هذا الجبل الهادئ وهذه المنطقة الريفية الخلابة الى مسرح للقتل و الارهاب. ورغم عودة الهدوء فان ذكرى هول ما جرى لا تفارق الاذهان.
علمنا بعد ذلك ان التحقيقات كشفت عن اسماء بعض الارهابيين وهم : أيمن التوجاني، حسان خزري،حمدي خزري، أشرف العياري، وليد الجيوي.