5
يسرى الشيخاوي-
السواد يوشّح جنبات المكان ونور يتسلل من بين خيوط العتمة، وصوت ناي يرسم ملامح بداية السفر في تفاصيل مسرحية "منطق الطير" للمخرج نوفل عزارة، المسرحية التي تجول بك في عوالم الصوفية.
مدائح وأذكار تخترق الأذن لتتسلل إلى القلب وتوشح الروح بخدر سرمدي، وأجساد الممثلين تتهادى على الركح متحررة لا تعترف بزمان ولا مكان تماما كأبيات منظومة "منطق الطير" لفريد الدين العطار.
منظومة من أربعة ألاف وخمسمائة بيت، نثر العطّار حروفها على لسان طيور تحلّق في سماوات الفكر الصوفي، حروف تغوص في عمق الروح وتبحث عن أجوبة لأسئلة عالقة عن الوجود والكينونة والمسير.
نص موشّح بالصوفية يسير بك في الطريق إليك، إلى روحك النقية الصافية، إلى الحق، إلى الله، مسيرة مسرحها المخرج نوفل عزارة في عمل فني تماهى فيه الوجودي والإنساني واختالت فيه الأجوبة نصف عارية.
على الركح تحررت الأجساد من قيود الواقع وانصهرت مع الموسيقى الصوفية ومع الإضاءة التي تخالها منبعثة من أعماق الشخصيات تخفت حينا وتشتدّ احيانا لتحاكي انفعالات الروح.
ألوف مؤلّفة من الطيور اختزلتها اجساد ستة ممثلين تحرروا من كل مادي وخلقت لهم السينوغرافيا والإضاءة أجنحة حملوا عليها الجمهور إلى عوالم الحيرة والسؤال والخلود المتفرّع إلى معاني كثيرة.
نوفل عزّارة، وآمال العويني، وثريا بوغانمي، ومراد دريدي، واسكندر براهم وسفيان بوعجيلة، طوعوا أجسادهم ليكونوا على شاكلة طيور تعانق الخشبة التي صارت سماء بلا نهاية ولا بداية.
على نسق"منطق الطير"، يسري بك الممثلون نحو " السيمرغ" أو إله الطيور، حركات أياديهم تحاكي رفرفة الاجنحة والنور المتسلل من بين تجاويف الحلكة يربت على أرواحهم التي تنشد الانعتاق.
في رحلتهم نحو الكمال والجمال المطلقين، كان الهدهد الذي يجسّده الممثل نوفل عزارة مرشدا ودالا إلى السراط المنشود، رحلة سبقتها عديد الأعذار حتى تسلم الطيور طرائقها، أعذار اتخذت هيئة أسئلة عن تفاصيل الثنايا، بعضها اوهام وبعضها أضغاث أحلام وبعضها رغبات كامنة تنشد الخلاص.
مجاريا ارتباك الطيور، لا ينفك الهدهد يزرع الاجوبة ويمسح بريشه على بقايا الوهم، يروي حكايات تعبق بأنفاس الصوفية والروحانية ويغوي الطيور بالسير نحو إلههم الحق، ومع روايات الأودية، رفرفت أجنحة الطيور لتلاحق معاني كثيرة تمتد بين البقاء والفناء.
وادى الطلب فالعشق والمعرفة ثم الاستغناء ثم التوحيد ثم الحيرة وأخيرا الفناء والبقاء، بعض من ملامح رحلة خاضتها الطيور، رحلة يخوضها الإنسان أيضا في الطريق إليه، إلى نفسه الاولى الصافية النقية، في الطريق إلى الله الذي يمتد إلى داخله.
مشقات كثيرة خاضتها الطيور، ليست إلا انعكاسا لما يخوضه الانسان في حياته على البسيطة، مشقات فيها من الشهوات ومن الموت والجراح الكثير حتى أنّها أبادت الطيور ولم يبق منها إلا "سي" "مرغ" أي ثلاثون طيرا.
عند الحضرة رفع الحجاب فتبين أن السيمرغ ليس إلا صورة الطيور في مرآة مقدّسة، لتنتهي رحلة البحث عن المعنى والخلود إلى ان النفس هي أصل الوجود وأصل الحق وأصل الإيمان إن بلغت مرتبة الصفاء.
استيتيقا متفرّدة صنعتها عناصر " منطق الطير" وفي ثناياه تشكّلت توليفة بين الروحي والحسي وبين المرئي والمسموع وبين الخطوة والكلمة وبين البصر والبصيرة إذ خاطبت كلمات العطار العقل والعاطفة وفتحت باب التاويل على مصرعيه بل أقحمت المشاهد في تفاصيل العرض.
جدل وصراع ينشبان داخلك وانت تلاحق الاجساد الراقصة، أجساد تحررت أعضاؤها وانصاعت لايقاعات الموسيقى الصوفية، خطوات تحاكي الرغبة والتواءات تشبه مسارات الحياة وهزات رأس وخصر تعكس اللاءات التي تصطدم بها النفس.
في تفكيك عناصر المسرحية وإعادة تجميعها قد يتجلّى لك واقعك كإنسان ومواطن وفرد في مجتمعات توحي لك انّها تغيرت ولكنها في الحقيقة تستنسخ نفسها بصور أخرى يطرّز السواد جنباتها.
والجمالية في "منطق الطير" تتجلى في السينوغرافيا التي أفلحت في ان تصنع من الركح فضاء رمزيا عجائبيا يقطع مع الواقع كانت فيه الإضاءة إشارة الانتقال في الزمان والمكان بل كانت أيضا محدّدا لهامش الضيق ومراكز الحرّية.
على نسق المتغيرات الضوئية التي تحاكي اختلاجات الطيور ولحظات تحررهم من سجن الأجساد، تغازل الموسيقى الصوفية أجساد الراقصين لتتشكل كوريغرافيا غير قابلة للتصنيف، كوريغرافيا بعبق التصوف لا تملك إلا ان تستلم لتفاصيلها وتغرق داخلك في عالمك وهواجسك تبحث عن أجوبة لأسئلة عالقة عن الفناء والبقاء لتخلص في النهاية الى أن العشق هو سر الوجود.
العشق الذي يعقب التفاني الروحي من أجل الانصهار مع المعشوق جسّدته حركات الممثلين وتعبيراتهم وإيماءاتاتهم ، العشق المتحرر من كل شائبة ومن كل عذر، عشقك لنفسك هو بداية الطريق فأنت إن لم تصغ لذلك الصوت المنادي فيك أن حي على العشق فلن تجدك ولن تجد الطريق الى الله.
ولأنهم استبطنوا معناه من "منطق الطير" وساروا إلى في الطريق إلى الله راقصين، فإن العشق كان حاضرا في كل تفاصيل العرض إخراجا وتمثيلا وسينوغرافيا وكوريغرافيا ونصا ولغة شعرية تلامس شغاف القلب رغم أخطاء الإعراب المزعجة في بعض المواضع.