“ثنايا”.. أو حينما تتلو النساء مانيفستو الحرية

يسرى الشيخاوي-

ليس من السهل أن تكوني إمرأة في مجتمع سلطوي، فمنذ أن تطلقي صرختك الأولى في وجه الحياة يطلقون العنان لوصاياهم يهيئونها حتى يلقنوك إيّاها تباعا جرعة جرعة قطرة وراء قطرة حتى تختلط بأنفاسك وتكاد تخنقك.

أن تكوني إمرأة في مجتمع، يحدّد مشيتك ووقفتك وطريقة جلوسك وأسلوب بكائك وضحكك مضن جدّا، فمنذ أن تظهر عليك علامات الوعي يملون عليك قواعد المشي " السليم" لا تترنّحي ولا تهزّي خصرك كثيرا كي لا تثيري الرغبات الكامنة.

حينما تقفين لا تبرزي نهديك ولا مؤخرتك، أبذلي كل ما في وسعك لتخفي تلك " التضاريس" التي لم تخلقيها ولكنّك مجبلة على إخفائها ما استطعت إليه سبيلا، حينما تضحكين اكتمي الضحك ولا تنفلتي في ذروة السعادة خشية أن يصفوك بالعاهرة.

وإن بكيت لا تصدري صوتا وابتلعي دمعك في صمت فعيب أن يعلو صوتك في حضرة "الرجال"، أما إن جلست فضمي ركبتيك إلى بعضهما البعض واحذري أن تجلسي بغير تلك الطريقة ومن المحبّذ ألّا تجلسي أصلا في حضرة " الرجال".

أطر كثيرة متشابكة ومتشعبة شيّدها الناطقون باسم المجتمع أحيانا وباسم الرب كل حين حول جسد المرأة، ووصايا كثيرة مبعثرة ومتناثرة تتعثر فيها المرأة حيثما ولت وجهها، أطر ووصايا تتجلى على شاكلة كلمات وخطوات ترسمها خمس نساء على ركح قاعة الريو في عرض "ثنايا".

"ثنايا" تجربة وجودية حسّية خلقتها نساء صادفن سيلا من اللاءات في مجتمع يجيد زرع الحجارة في الدروب، تجربة تشكّلت ملامحها في إطار حملة "يكفي من العنف"، إذ نظّمت أوكسفام مكتب تونس إقامة فنيّة بالشراكة مع جمعية "باي الحوم".

هو عرض " صلام"، بثت فيه خمس فنانات هواجسهن عن الأنوثة والنسوية والعنف المبني على أساس النوع الاجتماعي وعرّين فيه واقع المرأة في امجتمعات السلطوية الباترياركية.

 أسماء بن يعقوب، ونور سحيّق، وشروق العموري، وفاطمة الزهراء اللطيفي، وأنس الماكني، نساء جميلات كل منهن بطريقتها، تختلف تجاربهن لكنها تلتقي في ركن مظلم عنوانه الذكورية ما ظهر منها وما بطن.

عنف مادي ومعنوي ورمزي، شرّحن تفاصيله على الركح بكلمات موزونة متسقة حمالة وجع ومعان، كلمات تترجم دمعات وابتسامات وآهات وصرخات وشكاوى كامنة في القلوب.

 على الركح تتحرر أجسادهن ويتلون مانيفستو الحرية بأصوات تتحدّى كل القيود ويطمس صداها كل الأغلال التي أنشأها الآخر وكبل بها حرّية المرأة، وتسير إمرأتان حافيتان متحرّرتان من ضمة الحذاء.

روايات كثيرة عن طقوس إخضاع الأنثى إلى تقاليد المجتمع، ترجمتها كلمات الفنانات الخمس، كلمات ليست كالكلمات، كلمات تتخطّى كونها حروفا إلى كونها خطوات نحو التحرر من  سلطة هلامية.

أصوات تختنق في مواضع لتمتد دون حد في مواضع أخرى ترنو إلى الانعتاق وتلاحق الحرية، خطوات تتماهى مع الأصوات وأضواء تخفت وتشتدّ تحاكي نبض قول النساء وهن يحاربن من أجل وجود لا تدنّسه اللاءات.

على ركح قاعة الريو، يترجم الضوء صراع النساء ضد الباترياركية، ضوء يحرّكه ياسر الجريدي فيعري به تقاليد بالية وعادات واهية ويسبر به أعماق نساء لم يرمين المنديل وقاومن حتّى وجدنا طريقهن أو طرقاتهن فالمرأة إن استأنست بالحرّية لن ترضى بطريق واحدة.

ألوان كثيرة على الركح، ونساء يتحرّكن في كل الاتجهات، وخطوات راقصة حينا وثائرة أحيانا، وضوء يوائم نسق الكلام والتغييرات في نبرات الأصوات، وألوان كثيرة تحاكي الخيبات والانتصارات ومحاولات التغريد خارج السرب، إخراج متسق متناسق مع قضية عميقة قديمة ومتجدّدة دائما خلقه حمدي مجدوب.

على الخشبة كان التوظيب الركحي الذي أوجده يزيد بالهادي بسيط كما الكلمات ولكنه مثلها ينبض عمقا، فكل ذلك الفراغ على الركح لم يكن من فراغ، كل تلك المساحة كانت على شرف أجساد الفنانات الخمس يتحرّكن فيها بحرية وطلاقة ويرقصن رقصة الحرية في كوريغرافيا لملاك الزوايدي

أسلحتهن كلمات ونظرات وأصوات يتطلعن إلى الأعلى يقفن على أطراف أصابعهن ويرنون نحو الأفق، يحكين عن تمثلات الآخر لأسلحتهن وينثرن الكبت والعقد على الركح ويحرقنها بحروفهن ويجمعن الرماد أكواما.

"الولد يزيّن والطفلة تشيّن" واحد من الأمثلة الشعبية المتغلغلة في العقليات، صدحت بها حنجرة على الركح لتضع الإصبع على مكن الداء وتمسك خيط معاناة الفتاة في بعض الأسر من بدايته.

وإن كنت أنثى تمارس مطلق حرّيتها في أن تكون أمرأة متمرّدة على كل الوصايا والقيود داخل أسرتك دون معاناة، فإن الأمر لن يكون شبيها في فضاءات أخرى فالعقلية الذكورية كما السوس تنخر المجتمع.

حكايا كثيرة تتلوها الفيتيات الخمس على الخشبة وهنّ تنتقلن من فضاء إلى آخر وتهربن من الأطر لتعانقن رغبتهن في الانعتاق وترقصن رقصات بعناوين كثيرة غلبت عليها الحرّية والثورة وسُحقت على اعتابها كل أشكال الوصاية.

لحاف أبيض تنساب عليه قطرات من الدم في أوّل ليلة زواج، هي برهان شرف المرأة، وقطرات دم أخرى تنساب من ركبة فتاة يغمسون فيها حبات زبيب ويجبرونها على أكلها، هي طقوس حراسة " الشرف، دماء كثيرة تنزف من أجساد الإناث بعضها مرئي وبعضها غير مرئي ولكن اللون الأحمر كان حاضرا على الركح في الشاشات الخلفية التي ارتسمت فيها صور كثيرة تحاكي حروب النساء.

بأصوات تأبى أن تخفت مجدّدا، تقوّض الفتيات هواجس مجتمع يختزل المرأة بحكاياتها وآمالها وأحلامها وانكساراتها وهزائمها وانتصاراتها في قطرات دم، وفي مدى استجابتها لوصاياهم وإلا فإنها مارقة عن النواميس كافرة بطقوس قومها.

نشوة وألم، فرح وحزن، رضوخ وتمرّد، استسلام ومقاومة، الحرّية والسجن، ثنائيات تستحضرها وأنت تنغمس في تفاصيل الكلمات التي ترسم ملامح "ثنايا" وعرة ولكنّ الحياة تزيّن تفاصيلها.

تجربة حسّية وجودية تعيشها وأنت تواكب العرض، وتسقط الكلمات على وقائع عايشت البعض منها فتؤمن بكل حروفها وتستسلم للموسيقى التي خلقها أسامة قايدي، موسيقى تعمّق من صدق الحروف وتجعلك تنغمس أكثر في التفاصيل على نسق النوتات، وتلاحق الأمل في أصوات الفتيات وهن يغنين أغنية الانتصار على الذكورية في ختام العرض، عرض تظافرت فيه كل العناصر ليكون صوت من لا صوت لهنّ ورصاصة في قلب الذكورية ورأس المجتمعات السلطوية.

 
 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.