بسام حمدي –
كثر الحديث في المدة الأخيرة بخصوص تهديد الأمن الغذائي للتونسيين وقبل ذلك استقلالية القرار السياسي وكرامة الوطن من خلال ما يعتقد أنه تمليك للأجانب لأراضينا الفلاحية.
كل متابع للشأن العام يتفهم جيدا غيرة الخائضين في هذا الحديث على الأرض بما هي عرض و كرامة ويكبر فيهم أنهم تكلموا بصوت عال وقالوا لا لتملك الأجنبي لأرضنا ، لكن مع ذلك لابد من التمحيص في خصوص هذا الموضوع لرفع كل لبس قد يحوم حوله، لذلك يتجه الجواب عن السؤال التالي هل يسمح القانون التونسي فعلا للأجانب بملكية الأراضي الفلاحية؟
للجواب على هذا السؤال نتعرض لأهم القوانين التي تناول فيها المشرع التونسي مسألة تملك الأراضي الفلاحية سواء من الذوات المادية أو الذوات المعنوية وصولا إلى مجلة الاستثمار الجديدة التي تسببت في كل هذه الضوضاء القانونية.
إن الحديث عن إمكانية تملك الأجانب للأراضي الفلاحية لا يجوز منطقيا إلا مع دولة الاستقلال، فقبل الاستقلال لم تكن للشعب التونسي إرادة حرة في مناقشة هذا الموضوع. فقد عمد الاستعمار إلى تسليم أهم الأراضي الفلاحية خاصة في الشمال إلى المعمرين الذين تولوا بدورهم استصدار أحكام تسجيل لفائدتهم واستولوا على آلاف الضيعات الخصبة و طردوا منها مالكيها تحت مسمى المفعول التطهيري للعقارات.
و بعد الاستقلال خاضت الدولة التونسية مفاوضات مريرة مع الدولة الفرنسية والإيطالية والمالطية أفضت بعد جهد إلى استصدار قانون 12 ماي 1964الشهير بقانون الجلاء الزراعي إذ نص الفصل الأول من قانون 12 ماي 1964 أنه ابتداء من صدور هذا القانون ” لا يمكن أن يملك الأراضي الصالحة للفلاحة (أو الفلاحية ) إلا الأفراد من ذوي الجنسية التونسية أو الشركات التعاضدية ” .
لقد كان هذا الفصل واضحا كل الوضوح في أن الجنسية التونسية شرط مبدئي لملكية الأراضي الفلاحية وهذا الشرط لا يتعلق إلا بالشخص المادي ( الطبيعي) أو بالشركات المدنية المتكونة طبعا من أشخاص ماديين حاملين للجنسية التونسية و بالتالي تم استثناء جميع الأشخاص المعنويين الآخرين تماما من هذه المنظومة و هو ما يعززه الفصل الثاني من قانون 12 ماي 1964 .حيث ينص هذا الفصل على أنه ” يحجر تكوين أي شركة مهما كانت جنسية المشاركين فيها ” سواء كان القصد منها تملك أو استثمار الأراضي الفلاحية و ذلك تحت طائلة البطلان المطلق للعقد.
هذا التملك لا يتعلق في الحقيقة إلا بالأراضي الخاصة أما الأراضي العامة التي رجعت للدولة على معنى الفصل الثالث من قانون الجلاء الزراعي ، وهي التي كانت على ملك المعمرين و تم تأميمها أو التي آلت إليها نتيجة لتصفية الأحباس العامة و المشتركة ( أملاك الزوايا و الحبس عامة) ، فإن المشرع التونسي كان ملزما بإصدار القانون عدد 56 لسنة 1969 المؤرخ في 22 سبتمبر 1969 المتعلق بإصلاح الأوضاع الفلاحية ليؤكد أحكام قانون 12 ماي 1964 مع إضافة جديدة تسمح للأجانب “بابتياع قطعة أرض أو عدة قطع معينة قصد ( بناء) إقامتهم بها “.هذا الأجنبي يجب أن يكون شخصا ماديا و يجب أن يكون العقار الذي تم اقتناؤه موجها لبناء محل سكنى لا غير و بالتالي لا مجال للتوسع في هذا الخصوص و يبقى المبدأ العام هو مبدأ التحجير .
كما جاء هذا القانون بإضافة أخرى فرضتها ضرورة العمل المتمثل في السبل القانونية التي تمكن الدولة من التصرف في الملك العمومي الفلاحي .فقد سمح هذا القانون بتكوين ذوات معنوية عمومية مثل الدواوين الوطنية و مصالح و مؤسسات عمومية أو شبه عمومية مهمتها إجراء البحوث و تفسير التعليم و ترويج الطرق الفلاحية و التجارية … ( الفصل 6).غير أن تحجير تملك الذوات المعنوية للأراضي الفلاحية سيعرف نهايته مع قانون 08 مارس 1989 .حيث سمح هذا القانون في فصله الرابع للشركات خفية الاسم بتملك الأراضي الفلاحية و ذلك بشروط:
– الشرط الأول هو شرط الجنسية يجب أن تكون الشركة خفية الاسم تونسية الجنسية و لاكتساب الجنسية التونسية يجب على هذه الشركة الاستجابة للشروط التي حصرها الفصل الثالث من القانون عدد 84 لسنة 1985 المؤرخ في 11 أوت 1985 المنقح للمرسوم عدد 14 لسنة 1961 المؤرخ في 30 أوت 1961 و هي :
1/ أن يقع تأسيس الشركة طبق القوانين الجاري بها العمل و أن يكون مقرها الرئيسي بالبلاد التونسية .
2/ أن يشمل رأسمالها لحد خمسين بالمائة على الأقل على أسهم أسمية يمسكها أشخاص ماديون أو معنويون تونسيون .
3/ أن يتألف مجلس الإدارة أو المجلس المكلف بالتصرف أو بالرقابة من أغلبية أشخاص ماديين لهم الجنسية التونسية .
4/ أن يقوم بالرئاسة أو الإدارة العامة أشخاص ماديون لهم الجنسية التونسية …
و نص نفس الفصل من ناحية أخرى على أنه تعتبر أيضا تونسية الشركات الكائن مقرها الرئيسي بالبلاد التونسية و التي تكون فيها للدولة أو للجماعات العمومية المحلية مشاركة في رأس مالها….
-غير أن هذه الشروط العامة لاكتساب الجنسية تضاف لها شروط أخرى خاصة عندما يتعلق الأمر بالشركات خفية الاسم التي تملك عقارات فلاحية إذ يجب أن يكون جميع رأس مالها متكونا من أسهم أسمية يمسكها أشخاص ماديون من ذوي الجنسية التونسية حسب مقتضيات الفصل الرابع من قانون 08 مارس 1989 .
أما بالنسبة للشركات ذات المسؤولية المحدودة فيجب أن يكون جميع المساهمين في رأس مالها أشخاص ماديون من ذوي الجنسية التونسية و هو ما جاء به الفصل الأول ( فقرة جديدة) من القانون عدد 33 لسنة 1997 المؤرخ في 26 ماي 1997 المنقح للقانون عدد 56 لسنة 1969 المؤرخ في 22 سبتمبر 1969 المتعلق بإصلاح الأوضاع الفلاحية.
في هذا الفصل ذهب المشرع التونسي بعيدا في أخذ جميع الاحتياطات التي من شأنها أن تحول دون تملك الأجانب للأراضي الفلاحية ويتضح ذلك خصوصا فيما يتعلق بالشركات خفية الاسم. فإلى جانب شرط أن يكون المساهم في رأس مالها شخصا ماديا تونسيا فإن هذه الأسهم يجب أن تكون أسمية وهو تضييق لحرية تداول الأسهم في البورصة خاصة. ففي حالة المساهم الذي توفي و هو مالك لأسهم أسمية في شركة معينة و خلف شركات أخرى و ورثة، يقتضي معنى الأسهم الاسمية أنه لا يمكن لهؤلاء الورثة أن ينقلوا ملكية الأسهم الاسمية إلى بقية الشركات التي ورثوها عن مورثهم بل أن جل ما يحدث هو أن تنتقل لهم ملكية تلك الأسهم ( الاسمية) بأسمائهم ، فهي أسهم معروف مالكها و حيازتها معلومة .هذا الاحتياط من قبل المشرع الغاية منه هو الحرص كل الحرص على ألا تنتقل ملكية أسهم في شركة فلاحية إلى أجنبي فالتداول حول هذه الأسهم بيعا وشراء لا يتم في بورصة الأوراق المالية فهو ليس مفتوحا للعموم و أنما يظهر تداول الأسهم الاسمية عن طريق قيدها بسجل التحويلات الموجود في مقر الشركة.
و لقد أثير منذ ما يزيد عن سنة في مجلس نواب الشعب نقاش حاد بمناسبة مناقشة مشروع القانون عدد 71 لسنة 2016 المؤرخ في 30 سبتمبر 2016 المتعلق بقانون الاستثمار حول مشروع الفصل 05 . لقد عمد عديد النواب إلى اتهام الحكومة بالتفريط في الأراضي الفلاحية لمستثمرين أجانب خليجيين و أوروبيين بالدينار الرمزي و هو ما فنده ممثلو الحكومة و لم يستظهر هؤلاء النواب من ناحيتهم بما يؤيد إدعاءاتهم و جاءت الصياغة النهائية للفصل 05 من قانون الاستثمار كالتالي ” المستثمر حر في امتلاك العقارات غير الفلاحية و تسوغها واستغلالها لإنجاز استثمار مباشر أو غير مباشر مع مراعاة أمثلة التهيئة الترابية و التعمير ” يبقي إذن المبدأ العام هو تحجير تملك الأراضي الفلاحية من قبل الأجانب ،و في الحقيقة فإن هذا الفصل له ما يشبهه في قوانين أخرى و على الأكثر فهو موجه لطمأنة غير التونسيين و لجلب الاستثمارات الأجنبية.
و في تسجيل مصور بمناسبة مناقشة ميزانية 2018 أكد وزير أملاك الدولة و الشؤون العقارية مبروك كرشيد لمجلس نواب الشعب ” حسم مسألة بيع ملك الدولة العام الفلاحي …” فلا مجال لبيع ( هذا الملك ) سواء للتونسيين أو لغير التونسيين “.
في الختام هناك نقطتان قانونيتان لابد من التعرض لهما و هما ملكية الجزائريين للعقارات الفلاحية و مآل العقارات الفلاحية الراجعة للزوجين أو لأحدهما تحت نظام الاشتراك في الأملاك.
بالنسبة للأشقاء الجزائريين ترجع أسباب تملكهم بالعقارات الفلاحية لأسباب تاريخية وبالخصوص ثورة غرة نوفمبر المجيدة فلقد فر الكثير من الجزائريين خوفا من عمليات القمع والمجازر التي أرتكبها الاستعمار الفرنسي و اختلطوا بالتونسيين بالمصاهرة و الجوار وقاسموهم الرغيف و امتلكوا عديد الضيعات خاصة في الولايات الحدودية. بعد استقلال الجزائر عاد أغلب الجزائريين إلى وطنهم منهم من باع أراضيه و منهم من أحتفظ بها و بقي عدد كبير منهم بتونس محافظين على جنسيتهم و مندمجين في الشعب التونسي كأي فرد منه واحتفظوا بضيعاتهم الفلاحية و هو ما كرسته اتفاقية الاستيطان المؤرخة في 26/01/1963 المصادق عليها بالقانون عدد 34 المؤرخ في 03/5/1966 .وهذا التملك الواقعي للأراضي الفلاحية من قبل الجزائريين لا يخالف المبدأ العام المتعلق بمنع تملك الأجانب بالأراضي الفلاحية فلا يمكن بعد 12 ماي 1964 لا للجزائريين و لا لغيرهم امتلاك الأراضي الفلاحية.
أما بالنسبة للنقطة الثانية فهو نقاش يتعلق بملكية عقار فلاحي راجع لزوجين أحدهما أجنبي متزوجين حسب نظام الإشتراك في الأملاك و شمل الصك الذي تبنيا بمقتضاه نظام الإشتراك جميع ممتلكات الزوجين بما في ذلك العقارات الفلاحية. في الحقيقة يثار نقاش قانوني جدي عند تصفية المشترك سواء بموت الزوج التونسي أو نتيجة الطلاق، في كلتا الحالتين قد تؤدي عملية التصفية إلى أن ينتقل العقار الفلاحي أو جزء منه إلى القرين الأجنبي الذي يحجر عليه اصلا كما تقدم ملكية العقارات الفلاحية ويبقى هذا الموضوع للنقاش و للإجتهاد.