تصدّع الكتلة الديمقراطية: من المستفيد؟

لم يعد يخفى على المتابعين للشأن العام ولفصول المشهد السياسي الوطني حالة التصدّع والانقسام الذي تعيش على وقعه القوى المكونّة للكتلة الديمقراطية داخل المجلس الوطني التأسيسي.

خلال فترة حكم الترويكا، وفي أوج سطوتها وتغوّلها في السلطة،اضطلعت الكتلة الديمقراطية بدور القوة المضادة المعارضة التي تصدّت للمدّ النهضوي الهادر الذي حاول عبثا احكام السيطرة على مفاصل الدولة ومؤسساتها في سعي محموم إلى ضمان  الديمومة والثبات في أعلى هرم السلطة.

لا يمكن الجزم بأنّ تجربة هذه الكتلة طوال عامين من مخاض الانتقال الديمقراطي كانت مثالية ولم تشبها شائبة من حيث الخيارات والمقاربات السياسية لا سيما زمن الازمات الحادّة. لكن يجوز الاقرار بأنّ التقييم الموضوعي للدور الذي لعبته هذه القوة المعارضة في سيرورة التأسيس للجمهورية الثانية كان ايجابيا إلى حدّ ما خصوصا في القضايا المتعلقة بالنقاط الخلافية في مشروع الدستور علاوة عن المسائل السياسية الشائكة كتلك المرتبطة بتحييد الادارة ومدنية الدولة والأمن الجمهوري والحقوق والحريات الكونية وغيرها من الملفات الحارقة. 

لقد نجحت هذه الكتلة على وجه الخصوص في لملمة جراح قوى وسط اليسار والديمقراطيين الاشتراكيين واليسار التقليدي بشقيه الماركسي والقومي التي ساهمت في الحراك النضالي طوال الحقبة السابقة، بيد أنّها لم تجن سوى الهنّات والخيبات غداة انتخابات 23 اكتوبر جرّاء الهزيمة المذّلة التي مهدّت لصعود الاسلاميين ومن لفّ لفّهم إلى الحكم بمشروع مبهم لم يوازن بين مقتضيات الثورة ومتطلبات إعادة البناء والتأسيس بعد عقود من الاستبداد وهيمنة نظام الحزب الواحد والزعيم الأوحد على مقاليد السلطة ومراكز صناعة القرار الوطني.

هكذا وجدت القوى المشكلّة للكتلة الديمقراطية والتي نذكر منها على وجه الخصوص أحزاب المسار والجمهوري والتحالف والوطد الموحد نفسها إزاء "حتمية تاريخية" تفترض دسّ الفروقات الفكرية والايديولوجية لصالح وحدة الصفّ والتكتل إزاء المشروع المجتمعي والسياسي الذي أرادت حركة النهضة تمريره في الدستور وفي المخيّلة الشعبية لعموم التونسيين تحت يافطة الذّود عن الثورة وقيمها.

مع تصاعد وتيرة العنف السياسي الذي سمح بنتوء تربة خصبة مهدّت لظهور الاغتيالات من خلال جريمتي تصفية بلعيد والبراهمي وسحل وقتل لطفي نقض بتطاوين،ازدادت لحمة قوى الكتلة الديمقراطية التي اتّجهت إلى بلورة هذا التحالف في تكتلات سياسية كبرى كانت جبهة الانقاذ أحد أبرز أوجهها حيث تمّ تنسيق التحركات والخطوات الميدانية لاسقاط حكومة على العريض التي عجزت عن لمّ شمل التونسيين المصدومين بما آلت إليه أوضاع البلاد على جميع الاصعدة.

مثّلت جبهة الانقاذ فترة تلاحم بين هذه القوى التي لم تر غضاضة أومبرّرا يحول دون التحالف مع طرف سياسي من خطّ اليمين الليبيرالي المتدثّر بعباءة الوسطية والتجميع الوطني على قاعدة التسريع في طي صفحة الماضي القريب ونعني هنا حركة نداء تونس التي تحمل خلفية و مشروعا مغايرا لـقطب "اليسار المناضل"  بمختلف تفرعاته واختلافاته الدفينة التي عادت لتطفو على السطح من جديد فور انقضاء المهمة الرئيسية التي ولدت من أجلها الكتلة الديمقراطية ومن بعدها بقية الكيانات السياسية المعارضة لحكومة الترويكا.  

بادر في البداية التحالف الديمقراطي الذي اختار موضعا آخر خارج سرب جبهة الانقاذ باعلان انفصاله عن الكتلة الديمقراطية وتأسيس كتلة خاصة به قبل أنّ تتعزّز بوادر الخلافات خلال الفترة الأخيرة لا سيما بين طرفين أساسيين صلب هذا "القطب السياسي" وهما الجمهوري والوطد الموحد حيث وصل الأمر إلى درجة تبادل التهم والشتائم في صورة نمطية تعكس حجم التصدّع الذي يشقّ صفّ العائلة الديمقراطية التقدمية المناضلة زمن بن علي والتي عجزت عن جمع شتاتها وسدّ الثلمات التي اعترت وحدة صفّها منذ تحالف 18 أكتوبر.

إنّ النتيجة المنتظرة لهذا الانقسام والتشظّي في صفوف المكونات الرئيسية للكتلة الديمقراطية ستكون حتما تفويت فرصة حقيقية لكسر الاستقطاب الثنائي القائم بين حركتي النهضة والنداء ومن ثمّة مزيد تضييق هامش الاختيار لدى جزء من الناخبين التونسيين الذين قد تذهب أصواتهم هدرا في المحطات الانتخابية القادمة  سواء في حال المقاطعة والعزوف أو في صورة التصويت لقائمات أحزاب متناثرة واهنة قد تجني الوبال على نفسها فتزجّ بارثها النضالي ومشروعها الديمقراطي الاجتماعي في متاهات لا نهاية لها مقابل حصر مستقبل البلاد بين فكيّ كمّاشة!

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.