“الكترو بطايحي” في القصرين: كل الإيقاعات تؤدي إلى تونس

يسرى الشيخاوي-
 
في المركّب الثقافي بالقصرين كان الجمهور على موعد مع عرض "لكترو بطايحي" للموسيقي زياد الزواري، هو العرض الأول للعمل الفني في إطار جولة ينظّمها المعهد الفرنسي، وهي المرّة الأولى التي يناجي فيها الزواري كمنجته في القصرين، لكنّها ليست المرة الأولى التي أواكب فيها العرض.
 
ففي افتتاح أيام قرطاج الموسيقية، كان ركح مسرح الأوبرا بمدينة الثقافة فضاء لميلاد توليفة عذبة للموسيقى، ولخلق فنّي عماده الاختلاف والتنوّع، نفس الفلسفة مازالت تنبعث من ثنايا العرض، وحب الموسيقى مازال يرتسم في حركات العازفين وسكناتهم، ولكن في القصرين كان العرض بروح جديدة كيّفها العازفون مع المكان والزمان والشخوص، مع الحفاظ على ثوابته.
 
ولأن الفن التزام أو لا يكون، قاوم العازفون رداءة التقنيات الصوتية في المركّب الثقافي بالقصرين، حتى أن الحشرجة التي كان تحدثها أجهزة الصوت دفعتهم إلى الانقطاع عن العزف إلى حين معالجة الخلل التقني، ليعودوا إلى العزف بنفس الحماسة وبنفس الوجوه الباسمة.
 
وإن لم يتمكن المنظمون من إيجاد حل نهائي للخلل التقني الطارئ، فإن الموسيقي زيادالزواري والفنلنين المصاحبين له تكيفوا مع الوضع ولم تكن غايتهم سوى امتاع الجمهور الذي تفاعل مع كل اللوحات الموسيقية.
 
ولأن الفنانين الحقيقين وحدهم يرون الموسيقى عملية خلق تتطلب بعض التضحيات، واصل العازفون حواراتهم الثنائية مع آلاتهم وأصدح الفنانون بأصواتهم، حتى أن الزواري أبدى استعداده للعزف والغناء دون أجهزة صوتية، نظرا الطاقة التي بثها جمهور القصرين في المكان.
 
ومن ثنايا عرض "الكترو بطايحي" تعبق انفاس تونس من شمالها إلى جنوبها، تونس التنوع والاختلاف والهوية والأصالة، تونس المنفتحة على التلوينات، هو عرض تنبعث منه أصوات الرياح إذ عزفت ألحانها في أعالي الجبالي أو في امتداد الصحراء أو عمق البحر.
 
عائدة النياتي من تستور، ومجد بوخذير من قابس، وصاليخ الجبالي ماطر، وألفة الحمدي من منزل بوزيان، وإسلام الجماعي من مدنين ومحمد البرصاوي من تونس، وعدلي الناشي من نابل، وسيف التبيني من زغوان وسفيان السعداوي من القصرين، غسان الفندري وزياد الزواري وضياء وعماد الحمدي "توينلو"  بثوا رسائل من جهاتهم على شاكلة كلمات وألحان، شاركوا في رسم لوحة لوطن مداده الحب والحلم والهويةّ المنفتحة على عوالم الجمال.
 
وبوَصلة " بريك" سافر العرض بالجمهور إلى أعماق تونس الحالمة، تونس التاريخ والهوية، تونس الأصالة والموروث الثقافي، انسابت نوتات كمان زياد الزواري  وديعة عذبة كالنسيم المتسلّل من بين أزقة  المدن العتيقة، وعاضدتها نوتات قيتارتي غسّان الفندري وسفيان السعداوي لتترجم كل الزخم الاجتماعي في الأحياء الشعبية، وتعكس بارتفاع نسقها وانخفاضه كل مظاهر الانفعلات والتفاعلات الاجتماعية.
 
وفي عرض " الكترو بطايحي" تحدّثت الموسيقى، ونقلت قصصا منسية من الشمال إلى الجنوب، وآهات وضحكات وجنون وعبث، برؤية فنية جديدة زاوجت بين الأصالة والحداثة، حافظت على خصوصية الموروث التونسي واستلهمت من الأنماط الموسيقية العصرية. 
 
 وتسرّبت من حنجرة "عايدة النياتي" آهات من قلب المغارات، لتردّ عليها نغمات الناي إذ يبث فيها "صليح الجبالي" حكايات تونسية الهوى، ترافقه خلجات روح زياد الزواري التي تكتبها أنامله على كمانه،وكحبيب يسرّ إلى حبيبته بكلمات الحب داعب غسان الفندري غيتاره، فكانت النغمات عنوانا للحلم والامل.
 
 ومن عمق الصحراء انبعثت النغمات البدوية، وتعانقت النوتات في حوار ثنائي بين كماني  زياد الزواري وعدلي الناشلي، وتعانقت أصوات عائدة النياتي واسلام الجامعي وألفة حمدي وسيف التبيني حتّى توحّد الشمال والجنوب في الآهات الصادرة من حناجرهم، وينبعث في الأثناء صوت عماد توينلو محدثا إيقاعات "بيتبوكس"، وكأنّه يقول إنّ الاختلاف عنوان تنوّع وثراء.
 
 وعلى الركح، كانت النغمات عذبة تحاكي عزف الكون، صامدة في وجه الخلل التقني، وبينها تتسلّل الكلمات من حنجرتي ألفة حمدي وعائدة النياتي، كانتا تصدحان بأغان تراثية بتوزيع موسقي جديد، كانت خامة صوتهما عميقة جدا كنظرة الامل في عين أعين عجوز زينت التجاعيد وشمها. 
 
وعلى إيقاع طابع الإصفهان، وإذ بث صاليح الجبالي من أنفاسه في الناي انسابت نغماته متحرّرة مفعمة بالحنين والشجن، وكان لارتفاع صوت الطبل وقع أقدام الفلاحين إذا ارتطمت بأديم الأرض، قبل أن ينبعث إيقاع " الشقاشق" التي يهزّها مجد بوخذير معلنا الحرّية دينا، وفي الأثناء  لا ينقطع "البيتبوكس".
 
 وعديدة هي العوامل التي جعلت من عرض "الكترو بطايحي" في القرصين عرضا استثنائيا، ومن بينها مشاركة عدد من تلاميذ المعهد الجهوي للموسيقى بالقصرين في العرض، وكم كان رائعا أن يشارك الطفلين طارق وأمين في العرض بالعزف على آلتي الكمنجة والغيتار.
 
هم تلاميذ، أطّرهم العازف زياد الزواري في تربّص في شهر فيفري الماضي ليثمر تناغم بين التلاميذ وبقية عناصر العرض ، وهي رسالة تنم عن الاحتفاء بالقصرين والمواهب التي خلقت من رحمها.
 
ورغم الصعوبات التقنية، عزف محمّد البرصاوي على آلة "الديدجيريدو"، وهي آلة نفخ أسترالية قديمة تأخذك إلى عوالم الغابات الاستوائية حيث لا صوت إلا صوت الله متجلّيا في تفاصيل الطبيعة، آلة تحدث صوتا هرمونيا إيقاعيا، يتبعه شعور روحاني مسكر.
 
 ولأن العرض لا يخلو من رسالة والتزام، فإن مقطوعة  " زعمة ثورة؟" كانت رؤية فنية نقدية للثورة التونسية، مقطوعة حاكت الواقع السياسي الذي يطغى عليه الغموض، وترجمت المشهد في الفترة التي تلت الثورة بكل الفجوات والفوارق بين المركز والهامش ولعل المشاكل التقنية التي اعترضت العرض في ركح المركب الثقافي بالقصرين على عكس الوضع في مدينة الثقافة تثبت عمق الهوة بين ضفّتي البلاد.
 
وفي نهاية العرض، راوحت الموسيقى بين الصخب والهدوءوأضفت عليها إيقاعات " البيتبوكس" لمسة واقعية إذ بدت محاكاة لحالة الغليان التي شهدها الشارع خلال أحداث الثورة والتي يشهدها في السنوات الأخيرة، وتنوعت الإيقاعت وكانت كلّها تؤدّي إلى تونس الحالمة، تونس التي تجمع كل أبنائها على اختلافهم.
 
*صورة: منتصر عبيدي
 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.