الـعـصـف الـمـأكـول

 بسام حمدي-

سُيّست قبل إحداثها، وتم تقاسمها قبل تكوينها، وأضحت في مرمى القناصة السياسيين، فقُبرت قبل ولادتها وتحولت إلى عصف مأكول، هي بمثابة قمح لحمائم الأحزاب وهي المحكمة الدستورية التي ستحكمهم وستفرض عليهم السراط المستقيم في قيادة مؤسسات الدولة وتسيير دواليبها.

في تونس، دفعت الخيارات الاديولوجية والسياسية مصير المحكمة الدستورية إلى تفتيتها وتقطيعها قبل تكوينها، وبقي إحداثها خطوة منقوصة تجاه تحقيق استكمال مرتكزات الانتقال الديقراطي وظلت حبيسة خيارات أحزاب سياسية تستفيد من تغييبها عن الحكم ليخلو لها الجو ولتتلذذ متعة التلاعب بمصير البلاد مستغلة الكثير من الثغرات الواردة في دستور الجمهورية الثانية.

في البداية، أقحمت خيارات تشكيل المحكمة الدستورية في دائرة التجاذبات الايديولوجية وتعطل استكمال انتخاب ثلث أعضائها تحت قبة البرلمان لخلافات فكرية بحتة أعمق حتى من التنازع السياسي، وفشل البرلمان في انتخاب أشخاص مرشحين لعضوية المحكمة في الكثير من المناسبات واصطفت الكتل البرلمانية كلها وراء قرارات أحزابها.

والمحكمة الدستورية، هي هيئة قضائية وقع إقرارها بموجب دستور 2014، وتضم 12 عضوا، 4 منهم ينتخبهم البرلمان، و4 يختارهم "المجلس الأعلى للقضاء" ، و4 يعيّنهم رئيس الجمهورية، مهمتها مراقبة مشاريع تعديل الدستور، والمعاهدات ومشاريع القوانين، والقوانين، والنظام الداخلي للبرلمان، وتبت في استمرار حالات الطوارئ، والنزاعات المتعلقة باختصاصي الرئاسة والحكومة.

مرت الآجال الدستورية التي نصت عليها الفقرة الخامسة من الفصل 148 من دستور سنة 2014، دون إحداث المحكمة الدستورية، بسبب حدة الخلافات السياسية، وفشل البرلمان في استكمال انتخاب أعضائها، واتضحت نوايا وضع اليد على تركيبتها لدى الكثير من السياسيين لتكون بمثابة مرآة تعكس أطماعهم في الحكم.

وبمرور الزمن وتسارع وتيرة التقلبات في الحكم، ارتفعت حدة التنافس على التمركز في المحكمة الدستورية وازدادت لهفة تأسيس محكمة على المقاس، بعد التعرف على دورها المحوري في الفصل في الكثير من النقاط الخلافية ذات الأهمية القصوى في البلاد.

ومرّ البرلمان إلى إدخال تعديلات على قانون المحكمة، بعد فشله خلال 8 مناسبات، في استكمال انتخاب أعضائها، لكنها تعديلات زادت الطين بلة وحوّلت معركة تسييس المحكمة من قصر باردو إلى قصر قرطاج بعد أن شكك رئيس الجمهورية قيس سعيد في نزاهتها واعتبرها خطوة لتأسيس محكمة على المقاس.

ولا يعدّ رفض رئيس الجمهورية قيس سعيد إمضاء القانون المعدل لقانون المحكمة، المعلّل بوجود خرق للدستور، رفضا دستوريا فقط، لكونه رفضا ذو دلالات سياسية عميقة تدل على مخاوف سعيد من إرساء محكمة قد تكون جسرا حزبيا لعزله من الرئاسة.

وإزاء كل هذه الأسباب المعرقلة لإرساء محكمة تمتثل لها كل مؤسسات الدولة وفق أحكام الدستور، أُفرغت أهداف إرساء محكمة دستورية من كل مزاياها، وأُكلت كعكة المحكمة الدستورية قبل نضجها فباتت عصفا مأكولا أكلته الدواب فراثته، فيبس وتفرّقت أجزاؤه.

 

 

 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.