“العودة إلى العصر الحجري”.. حينما يستجيرعادل المعيزي بالكتابة من الوباء

 يسرى الشيخاوي-

حتّى شهر فيفري الماضي لم يكن واردا أن تتحوّل المنازل إلى أركاح وشاشات ومزارات لذرف الدموع وأركانا للمناجاة، لم يكن واردا ان تصبح الغرف سجونا مفتوحة على بعضها البعض، لم يكن يكن واردا أن تمتدّ يد "كورونا’ إلى حيوات الأفراد فتبعثر خطواتهم.

وكل الاحتمالات التي كانت غير واردة في الأذهان، صارت واقعا لا مفرّ منها مع تفضي الفيروس وارتفاع عدد الإصابات وغزوة الأرقام التي صار سماعها طقسا يوميا يمارسه الكل غصبا عنه.

وكان الحجر الصحّي الشامل الذي تداعت له النفوس واضطربت منه القلوب في الأيام الأولى حتّى سكنت إليه فيما بعد وغدا أمرا مألوفا لكل من وجد لنفسه ملاذا وميناء سلام يتخفف فيه من عبء الجائحة.

وسط دوّامة الترقب والانتظار وهواجس التعوّد على الحياة مع الفيروس، حصّن الأفراد أنفسهم بممارسات محبّبة إليهم حتّى لا يكونوا في مرمى قلق نفسي قد يؤول إلى الأسوأ.

من الطبخ إلى الرقص والكتابة والرياضة، تعددت الأبواب التي شرعوها ليهربوا من الفيروس ويربتوا على أنفسهم المثقلة بالقلق والخوف، وكان أن استجار الأديب والشاعر التونسي عادل المعيزي  بالكتابة من الوباء وخلق تفاصيل مذكّرات روائية بعنوان" العودة إلى العصر الحجري ، كتابة في زمن الوباء".

حلّة الكتابة الكترونية في طبعة اولى بدعم من مؤسسة كمال الأزعر الثقافية، يخذ فيها المعيزي تفاصيل فصول من الحياة تتداخل فيها الازمنة وتتماهى فيها على إيقاع الجائحة.

تجربة جديدة يخوضها عادل المعيزي، يتشابك فيها الإنساني والوجودي والفني وتتمرّد فيها يوميات الإنسان والفنان على حدود الزمان والمكان والواقع أحيانا فتحملك على أجنحة التخيل إلى داخلك.

مزيج بين الذاتي والموضوعي ينسج منه يومياته، يوميات تتقاطع في تفاصيله مع يوميات الكثيرين حتّى أنّك في ذروة ملاحقة الأحداث، تبدو لك بعض التفاصيل مألوفة ويحدث ان تحدّث نفسك بأنها خبرت الإحساس عينه.

من تجاربه الذاتية ومن أعماق فضاءات حميمية ينهمر السرد مثقلا بالمشاعر والهواجس وينساب ليتعثّر في كل مرّة بحدث ينزع عنه الذاتية ويوشّحه ببعد يجعله تجربة جماعية يلتقي عندها الكثيرون.

وفي كل يومية يقرأ عادل المعيزي ذاته ويقرأ الآخرين معه، ومع تواتر التفاصيل تصبح القراءة تمرينا نفسيا للتخلص من حمل أيام الحجر الصحي وتبعاتها على الأرواح والنفوس.

أسلوب روائي مغر من الفاتحة حتى الختام، اختزل فيه الكاتب فيضا من المشاعر التي اعترت الذوات الإنسانية في مواجهة سجن فرضه الفيروس، ومن تجربته في الحجر الصحي رسم عوالم بعضها راهن وبعضها يفوح منه عبق الماضي.

علاقته بالانظمة السياسة، تجربته في هيئة الحقيقة والكرامة وتمثلاته للعدالة الانتقالية، البراط اللمقدس الذي يشدّه إلى عائلته، زوجته وأبنائه، ذكريات كثيرة سكبها عادل المعيزي في كتابه وهو يوثق يومياته زمن الجائحة.

مجالات كثيرة لامسها الكاتب وهو يروي تفاصيل يومه فيعرّج تارة على الموسيقى والفنون التشكلية والسينما والمسرح  وطورا على الشعر ليخفف من وقع الفيروس في النفوس فكانت يومياته متنفسا وطريقا ثالثة بين تجلّيات المخاوف وتمظهرات المقاومة.

وفي ثنايا حكاياته، ينظر إلى الجائحة من زاوية الوجود والكينونة ويرسم طريقا إليه وإلى كل من يقرؤه ففيعود إلى نفسه ومن اعماقه يتمحّص الخارج فيعدو للكون من حوله أبعاد أخرى معاييرها وجدانية وعاطفية بالأساس. 

وحتّى لحظات الاستهتار واللامبالاة التي تعتريك وانت تقاوم احتمال إصابتك بالفيروس كانت حاضرة في اليوميات، فالحضور المكثّف لفكرة الموت يجعلك تتمرّد وتثور على القيود المفروضة عليك.

حكايات البعض مع الفيروس كانت شبيهة بحكاية أهل الكهف، الزمن لا معنى له والحياة أيضا وحتى الشخوص المحيطة بنا، الفيروس اللعين استبد بكل الاهتمام وتملّك القلوب والأذهان، إلى ان صار الامر شبيها بالامل يذهب ويعود ولا تودّعه.

وفي كتابه، يرمي إليك عادل المعيزي المصل وراء المصل، فالكتابة مصل والحب مصل والتصالح مع الذات مصل والنقذ الذاتي مصل والمصالحة مع الماضي مصل والدفء العائلي مصل والمقاومة مصل.

ومن المنتظر أن يصدر المعيزي يوميات خاصة بالموجة الثانية من فيروس كورونا، يقول إنّها ستكون تدوينا لذكرياتنا في مواجهة هذه الجائحة التي بدأت تنتشر في تونس بشكل واسع ولا شك أنها ستشكل شتاء قاسيا خصوصا على الفئات الهشة.

 

 

 

 

 

 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.