“الحال زين يا ليلا؟!” لرباب مباركي أو شاعرية المأساة في قابس

يسرى الشيخاوي-
 
ليس من السهل على المخرج الملتزم بقضايا وطنه أو جهته أن ينقل الواقع بتجرّد وموضوعية، وقد تقفز الذاتية من ثنايا العمل السينمائي وتولّد حالة من التشابك بين العقلانية والعاطفية، و"الحال زين يا ليلا؟!" للمخرجة الشابة رباب المباركي، وليد تجربتها الذاتية ولكنه أيضا تعبيرة فنية عن مشكلة جماعية يعيشها أهالي قابس جراء التلوث الذي يسببه الفوسفوجيبس.
 
والفيلم الذي عرض في إطار نادي سينما المواطنة بدار الثقافة بن خلدون من إنتاج صالح الجدي، وهو يصور معاناة بحارة وصيادين يرددون صدى شكوى البحر من الفضلات والمخلفات الكيميائية التي تفرزها وحدات الصناعات الكيميائية.
 
كاميرا رباب المباركي تنقل إلى المشاهد تقاسيم الموت في قابس، لا شيء يوحي بالحياة هناك، لون البحر يدنو شيئا فشيئا من السواد معلنا بداية الحداد، واليابسة مكفهرة والأثير عابس، وابتسامات الصيادين تأبى التحرر من الوجع، والوثائقي وإن لم يغرق في السوداوية، فإنه لامس قلب المأساة في قابس، ونقلها بطريقة امتزجت فيها الدراما بالأمل وخلقت الضحكة من الشهادات العفوية للبحارة.
 
"رانا عباد مش عبيد.. لانا حجر لانا حديد للبخارة وللأصيد"، "الصورة كحلة وبيضة والناس مريضة"، مفردات من قصيدة تضمنها الوثائقي أتت على الأضرار الصحية والبيئية التي يخلفها الفوسفوجيبس، قصيدة تحدثت عن معاناة الأجنة في بطون أمهاتهم من التلوث، وعددت الفوارق بين قابس الامس وقابس اليوم.
 
والفيلم اكتفى بعرض شهادات للبحارة، واحتضن آلامهم وهمومهم، بسط اليأس في نبرات أصواتهم والأمل الساكن في أعينهم، وكان ترنيمة لضحايا الوحدات الكيميائية، ضحايا لم يتزعزع حبهم للبحر قيد أنملة، رغم التلوث وقلة الصيد وتغول داعش البحر.
 
والشاعرية في الفيلم تتجلى في خطاب الصيادين، حديث عن البحر، عن رابط مقدس بينهما  لا ينقطع، عن رجاله الساكنين في الذاكرة الشعبية، عن  وجع التفكير في البعد عنه، عن الرجولة التي قذفها فيهم، بين شهادات البحارة مساحات من الصمت، تضمنت معلومات عن عدد الصيادين في قابس وعن عدم قدرتهم على تأمين مصاريف عايلاتهم.
 
وهذه المساحات التي قد لا تنال إعجاب  البعض كانت خيارا من المخرجة، ربما أرادت من خلالها أن تلفت إلى صمت الدولة التي لم تجد حلا جذريا للوحدات التحويلية ولم تصغ لصرخات الاهالي، وبعيدا عن مساحات الصمت تنبعث من بين خيوط الهواء الملوث كلمات " الخال زين يا للا.. وربي يكمل بالخير يا ليلا"، هي عادة "التلحليح" التي تتمثل في غسل ساق العروس بماء البحر الرمل وتيمنا، وعلى وقع الغناء تتسلل الغازات الملوثة من مصنع التكرير، في مفارقة موجعة يتقاطع عندها الموت والحياة.
 
ومن اعماق الذاكرة الشعبية استلهمت رباب المباركي عنوان فيلمها الذي اوردته في شكل تساؤل واعقبت مقطع الأغنية بنقطتين تعجب واستفهام، تحملان بين طياتهما رفضا للواقع الذي آلت إليه قابس وتطلعا إلى أن تستعيد الجنة نقاءها.
 
ولأن الالتزام دين، لا يدخر متبعوه اي فرصة لرد العرفان الأشخاص كانوا فاعلين في زاوية ما من حياتهم ومسيرتهم ، فإن رباب المباركي اهدت الفيلم للراحل الطيب الوحيشي اباها الروحي، وضمنته مقتطفات من فيلمه "قابس": واحة ومصنع" الذي منع من العرض قبل الثورة، وهو اول عمل سينمائي عن مأساة قابس، واهدته أيضا لروح نادر شكيوة الناشط في المجتمع المدني وكل المجتمع المدني بقابس.

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.