بقلم : محجوب لطفي بلهادي
بالتزامن مع “الزحف الهلالي الجديد” الذي يشهده قطاعنا التربوي بقيادة ” المستنصر بالله اليعقوبى وشركاءه”.. التأمت مؤخرا دون أضواء كاشفة تذكر ندوة وطنية على غاية من الأهمية حول “التربية المجتمعية كرافد للأمن الشامل” التى نظمها “المركز التونسى لدراسات الأمن الشامل ” بالتعاون مع “منظمة التربية والأسرة”..
وبصفتي كرئيس لقسم الأمن السيبرني بالمركز المذكور وصاحب أوّل مؤلّف على الصعيد العربي والافريقى حول “التربية على وسائل الإعلام” الصادر بباريس سنة 2015 قدمت محاضرة فى الغرض هذا نصها :
تعرّف “التربية على الميديا” أو “التربية على وسائل الإعلام” كمجال تربوي مستحدث نسبيا فى تقاطع بين “علوم التربية “وعلوم الإعلام والاتصال”، تختص في التدريب على مجموعة التقنيات والمقاربات فى التعاطي النقدي مع ما تبثه او ما تنشره وسائل الإعلام التقليدية (من صحف، وقنوات إذاعية وتلفزية وومضات اشهارية الخ) ووسائط الاتصال الحديثة (من مواقع ومنصات رقمية وشبكات تواصل اجتماعي…).
تهدف “التربية على الميديا” إلى إكساب مستخدميها المهارات والكفايات les compétences الضرورية المساعدة على :
– فهم الوسائل الاتصالية واكتشاف ما تستبطنه من مضامين ورسائل مشفرة
-الاختيار الواعي لوسائل الإعلام والمحتويات الإعلامية
-التواصل مع وسائل الإعلام وإنتاج المضامين الإعلامية
-توجيه الأسرة بترشيد اختياراتها للنأي بها عن المنزلقات الخطيرة
باختصار شديد تعمل “التربية على الميديا” على خلق جيل “مواطني سيبرنى” Cyber citoyen مسؤول، مبدع، محصّن من المخاطر الرقمية غير قابل للاستمالة بسهولة لهذا الرأي أو ذاك.
وتزامن ظهور “التربية على الميديا” أو “التربية على وسائل الإعلام” مع انطلاق الثورة المعلوماتية منتصف خمسينات القرن الماضي، تلتها مؤتمرات وندوات دولية عديدة جلّها تمت تحت رعاية منظمة اليونسكو التى تعتبر الداعم الكبير “للتربية على الميديا” على المستوى الدولي. ففي العديد من المناسبات ظلت اليونسكو تقرّ تكرارا ومرارا بأهمية “التربية على الميديا” من خلال التأكيد على انه ” يجب أن نعد النشء للعيش في عالم سلطة الصورة والصوت والكلمة“.
تستهدف “التربية على الميديا” كافة الفئات الاجتماعية من مدرّسين وإعلاميين وعامّة الناس وأيضا جميع الشرائح العمرية من أطفال وشباب وكهول وشيوخ عملا بشعار اليونسكو الشهير “التعلّم مدى الحياة” L’enseignement tout au long de la vie لتغطى كافة المستويات التعليمية بدءا من رياض الأطفال إلى المرحلة الجامعية وذلك من خلال تقديم مجموعة من الأنشطة البيداغوجية والورشات التفاعلية الخاصة بكل فئة…
فى المجال المدرسي التونسي، تعدّ الفئة الفاصلة بين السابعة أساسي والبكالوريا من أهم الشرائح المعنية فى العاجل بتنزيل مشروع “التربية على الميديا” فى الواقع وذلك بالنظر للتحولات النفسية والسلوكية العميقة التى تشهدها هذه الفئة وقابليتها الكبرى على الانقياد والمخاطرة .
لسائل أن يسال هل تستلزم التربية على الميديا إمكانات مالية و لوجستية ضخمة ؟
قطعا لا على عكس ما يعتقد… يكفى أن يتوفر بالفضاء المعدّ للغرض بعض الصحف أو أشرطة فيديو للانطلاق فى عملية التدريب لكن من الضروري والمحبذ جدا أن يكون هذا الفضاء فى ارتباط مستمر بشبكة الانترنت ومجهز بعدد محدود من الحواسيب أو اللوحات الرقمية أو حتى الهواتف الذكية التى أصبحت اليوم فى متناول الجميع صغارا وكبارا…
في خصوص الأنشطة التطبيقية “للتربية على الميديا”، نرد منها على سبيل الذكر لا الحصر المحاور التالية:
– كيف نؤثث مكان الميديا فى غرف أطفالنا ؟
– كيف توجّه وتغسل العقول من خلال التصوير من زوايا محددة ؟
– كيف تستخدم المؤثرات الصوتية فى اختراق ومغنطة التفكير والأحاسيس ؟
– ما هي آليات التفريق بين الخبر اليقين والخبر الكاذب وما أدراك ما الخبر الكاذب Fake news البضاعة الأكثر تداولا وإقبالا على الشبكة هذه الأيام ؟
– كيفية البحث فى مصدرية الخبر وآليات التدقيق فى درجة مصداقيته
– تفكيك وتحليل مقاطع الفيديو المحرضة على الكراهية والإرهاب
– كيفية مواجهة الألعاب الالكترونية الخطرة من “حوت أزرق” وغيرها من التطبيقات الخبيثة؟
على صعيد التجارب المقارنة المتجذرة فى “التربية على الميديا” نذكر على وجه الخصوص التجارب الفرنسية والبلجيكية والسويدية.
- فى فرنسا، منذ سنة 1983 تم إحداث “مركز للتربية على الميديا والمعلومات” CLEMI ، وإدراج “التربية على الميديا” كأولوية مواطنية مطلقة ضمن توجهات قانون إصلاح المدرسة الجمهورية لسنة 2013،
- فى بلجيكا يوجد “مجلس أعلى يعنى بالتربية على الميديا” Conseil supérieur de l’éducation aux médias منذ سنة 2008،
- فى السويد انطلق العمل منذ هذه السنة فى تدريس “التربية على الميديا” بالمدارس الابتدائية كمادة مستقلة بذاتها…
أما على المستوى العربي تعدّ لبنان رائدة فى هذا المجال بإدراجها “التربية على الميديا” فى مناهجها التربوية تليها المغرب التى بدأت تخطو خطواتها الأولى الثابتة فى اتجاه إرساء تقاليد جديدة على الصعيد الجمعياتى والتربوي فى علاقة بالتربية على الميديا، أما ببلادنا وبحسرة شديدة أقرّ بأنه بالكاد تعلم نخبنا حتى تلك المتخصصة عن وجود هذا المجال التربوي أصلا، وبالتالي لا نجد له أثرا فى مشاريع “الاصلاح التربوي” المتعددة إلى حدّ التهافت… وان اعتقد البعض أنه مثبت تحت مسمّى “المدرسة الرقمية” فان ذلك ناجم عن الخلط الكبير والشائع حتى داخل الأوساط الأكاديمية بين مفهوم “التربية على الميديا” “ومفهوم “التربية بواسطة الميديا” Education aux médias et Education par les médias، مما يجعل من حظوظ اعتماد هذه المقاربة فى المنظور القريب جدّ متدنية ان لم نقل تقارب الصفر فى بلد فايسبوكى بامتياز بالنظر لحجم المنخرطين مقارنة بعدد السكان.. فى بلد يجنّد فيه الشباب بالآلاف عبر الشبكة للالتحاق بالمشروع الدولي للإرهاب أو بشبكات الجريمة السيبرنية المنظمة.. وفى بلد تواجه فيه التطبيقات الخبيثة والمدمرة “كالحوت الأزرق” أو “مريم” فقط بالحجب والاستبيانات والمواعظ الحسنة فى حين ان “التربية على ميديا” يمكن أن تقدم البديل الحقيقي والمستديم فى مواجهة هذه التهديدات السبرانية من خلال تدريب الشاب منذ صغر سنه، وبمنأى عن كل وصاية أو تسلّط عائلي، على فكّ شفرة المحتويات الاتصالية المفخخة من نص وصورة وصوت…
علينا أن ندرك جميعا قبل فوات الأوان، بفعل الطفرات الاتصالية والمعلوماتية المتتالية، بأنّ إحداثيات المدرسة التى عهدناها فى السابق لم تعد تستجيب حتى فى الحدّ الأدنى لمتطلبات وحاجيات مجتمع بصدد الانتقال السريع إلى مجتمع سيبرنى بامتياز Cyber société تتحكم تكنولوجيا المعلومات والاتصال وعمالقة الواب Les géants du Web فى أدق تفاصيل تفاصيله…
فبتعدد وتنوع مصادر المعرفة والمعلومة لم تعد هذه الأخيرة حكرا على المدرّس الذي انحسر دوره التقليدي بشكل نوعى ليقتصر أساسا من هنا وصاعدا فى عملية تأطير وتيسير حصص وورشات التدريب والتعلّم حيث أضحى للتلميذ او للطالب هامشا واسعا وفاعلا فى عملية بناء الدرس أو الحصة… والمدرسة ذاتها بمنشاتها وقاعاتها وأقسامها الفسيحة بدأ بريقها يخفت بفعل ظهور “منصات تعليم عن بعد” متطورة، غير مكلفة وجذابة…
فى الختام، فان كانت “التربية المجتمعية” بتعبيراتها المتعددة ضرورة قصوى فان أيسر طرق تجسيمها بأعلى درجات النجاعة والمردودية هو بلا ريب الاستثمار الجيد فى مجال “التربية على الميديا”.
فالرهان اليوم على “التربية على الميديا” ليس من قبيل الترف الفكري فهو فى حقيقة الأمر مراهنة على الحاضر والمستقبل.. على صنع ترياق فعال فى مواجهة سلطة الصورة وسطوة الإعلام والسبيرنطيقا.. وعلى وضع براديغم استباقي فى مقارعة الإرهاب السيبرنى فى معاقله داخل الشبكة…
إذا متى نعى بمحورية هذا المجال التربوي فى تغيير سلوكنا المجتمعي نحو الأفضل ؟
سؤال ينتظر الرد السريع خاصة من صناع القرار فى بلادنا وذلك قبل ان يلتهم وحش “الإرهاب السيبرنى” “والحوت الأزرق” وغيرهما ما تبقى من فلذات أكبادنا…