الأدوية المغشوشة تفتك بالأفارقة أكثر من الحروب نفسها

في وقت تكافح فيه لإنهاء حالة الفوضى السياسية والأمنية، التي تعرفها منذ سنوات، تواجه الدول الأفريقية معضلة جديدة تكمن في رواج هائل للأدوية المغشوشة والمزورة وهي أدوية تفتك بالآلاف سنوياً.
وسبق أن دقت منظمة الصحة العالمية ناقوس الخطر إزاء اجتياح الأدوية المغشوشة للقارة السمراء، إذ قدرت عدد ضحايا هذه الأدوية بنحو 100 ألف إنسان كل عام في منطقة أفريقيا جنوب الصحراء.
مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة كشف في تقرير سابق عن أن ما يصل إلى 50 في المئة من الأدوية في منطقة الساحل الأفريقي إما مزورة أو لا تفي بالمعايير.
ويواجه الأفارقة عدداً من الأمراض على غرار الملاريا والالتهاب الرئوي الحاد والسرطان، وهي أمراض تدفع هؤلاء إلى البحث عن الأدوية بأي ثمن، وتنتشر في عدد من الدول مثل النيجر أسواق تباع فيها الأدوية.
موت بطيء
ومن لومي، عاصمة توغو، قال إدنسون، الذي فضل عدم الكشف عن هويته كاملة، إنه يواجه “موتاً بطيئاً بسبب (لجوئه) إلى أدوية تبين لاحقاً أنها منتهية الصلاحية ومزيفة”. وأضاف إدنسون لـ”اندبندنت عربية”، “بعدما تناولت هذا الدواء، أصابتني آلام في بطني، وعند فحصي بالمستشفى الحكومي بالعاصمة كشف لي الطبيب عن تعرض كليتي لأضرار جسيمة”.
وبنبرة يملؤها اليأس قال المتحدث إنه “لم يعد قادراً على المشي بسبب الأوجاع التي بات يعانيها في كليتيه”، مضيفاً “لدي أصدقاء واجهوا وضعيات مماثلة بسبب تلقيهم أدوية اكتشفنا لاحقاً أنها مزورة، إذ تستغل عصابات الاتجار بهذه المواد السامة حاجتنا إلى أدوية”.
أما فرنسوا الذي تحدث لـ”اندبندنت عربية” من نيجيريا، فقال إنه “عانى مرض السرطان، ولم يجد الدواء في الصيدليات الحكومية، فلجأ إلى الأدوية التي تعرض في الشوارع”. وأضاف أنه اكتشف بعد ذلك أن هذه الأدوية مزيفة، “أسعارها كانت رخيصة للغاية لكن ضررها كان كبيراً بالنسبة إلي، إذ أصبت بشلل بسبب ذلك، وإلى الآن لم أستعد توازني الصحي بعد”، وفق تعبيره.
وتتفاقم بالفعل مشكلة الأدوية المغشوشة والمزورة في دول الكونغو الديمقراطية وتوغو والنيجر والسنغال وأوغندا وغامبيا، وتؤرق ظاهرة رواج الأدوية المغشوشة والمزورة سلطات هذه البلدان التي تعاني أيضاً مشكلات سياسية وأمنية.
وتعد توغو من أكثر الدول التي تحركت قبل سنوات لإيجاد حل لمعضلة الأدوية المغشوشة التي غزت أسواقها، وخطت خطوات على هذا الطريق، إذ عدلت قانوناً وطنياً في عام 2015 أصبح بموجبه المخالفون يواجهون عقوبة السجن لمدة 20 سنة ودفع غرامة تبلغ نحو 85 ألف دولار.
أطر تنظيمية ضعيفة
وكثيراً ما حذرت منظمة الصحة العالمية من خطورة تزايد الأدوية المغشوشة والمزورة في أفريقيا، ولدى المنظمة آلية إبلاغ، تعتمد على السلطات التنظيمية الوطنية أو الإقليمية في جميع أنحاء العالم لإخطارها بالمضبوطات. ومن غير الواضح الأسباب التي قادت إلى غزو الأدوية المغشوشة للسوق الأفريقية، لكن متخصصين ومحللين يربطون ذلك بغياب الرقابة وضعف الأطر التنيظيمة.
الباحثة في علم الأدوية وتطوير اللقاحات ميس عبسي حصرت أبرز أسباب اجتياح الأدوية المغشوشة للقارة السمراء بالأطر التنظيمية الضعيفة، وقالت عبسي إن “لدى عدد من البلدان الأفريقية أطراً تنظيمية وآليات تنفيذ غير متطورة، مما يسهل على الأدوية المزيفة دخول السوق، إضافة إلى الفساد في قطاعي الرعاية الصحية والأدوية الذي قد يكون أدى إلى تسهيل توزيع الأدوية المزيفة”.
وأشارت أيضاً إلى “ارتفاع الطلب على الأدوية وخصوصاً بسبب الأسعار، إذ تجبر القيود الاقتصادية عدداً من الأشخاص إلى اللجوء لبدائل أرخص، غالباً من الأسواق غير الرسمية، مما يزيد الطلب على الأدوية المزيفة”، لافتة إلى أن “ضعف تتبع ومراقبة سلاسل التوريد يؤدي إلى السماح للأدوية المزيفة بالتسلل إلى السوق”.
وشددت عبسي على وجود “هناك عنصر آخر مهم، ألا وهو سهولة التجارة العالمية والإنترنت سهل على المزورين توزيع الأدوية المزيفة عبر الحدود”.
تعاون دولي أوسع
وتأتي هذه التطورات في وقت لا تتوانى فيه قوى الأمن في عدد من الدول الأفريقية عن القيام بحملات تمشيط واسعة تنجح خلالها في حجز عشرات الأطنان من الأدوية المغشوشة، لكن هذه الجهود لم تنجح لوحدها في وضع حد للظاهرة.
ويستغل تجار هذه الأدوية المزيفة ضيق الحال الذي يمر به سكان القارة من أجل ترويجها، إذ تباع بأسعار أرخص بكثير من أسعار الأدوية الحقيقية التي تعرض في الصيدليات، وعادة ما يعرض هؤلاء التجار هذه الأدوية في محال بأسواق دول غرب أفريقيا وغيرها.
ويعتقد الباحث السياسي المتخصص في الشؤون الأفريقية محمد تورشين أن “انتشار الأدوية المغشوشة يعود لضعف الرقابة من الحكومات الأفريقية، وكذلك تنامي ظاهرة الفساد والغش وسط الذين يعملون في قطاع الأدوية”.
وبين تورشين في تصريح خاص، “أعتقد أن من العوامل الأخرى التي تسهم في تفشي هذه الظاهرة الحدود المفتوحة بين الدول الأفريقية وتنامي ظاهرة التهريب”، مشيراً إلى أن “كل هذه العوامل تقود إلى ارتفاع كميات الأدوية المغشوشة في أفريقيا”.
وتابع “أعتقد أن هناك غياب للوعي لدى المواطنين وبعض الجهات التي تعمل في هذه التجارة وهي جهات لا خبرة لديها وتبحث فقط عن بعض المكاسب والأرباح ما يجعل هذه الظاهرة تتنامى، وهي مسألة معقدة ولمعالجتها يجب اتخاذ إجراءات عدة سواء من الدول الأفريقية المعنية أو الدول الأخرى التي تصدر أدوية إلى القارة الأفريقية”.
وأردف تورشين أنه “يجب ضبط الحدود ومحاربة الفساد باعتبار أن كثيراً من الأدوية تتسلل من الحدود المنفلتة، ناهيك بضرورة تحديث التشريعات القارية وجعلها متناسبة وملائمة للتشريعات الوطنية، باختصار الأمر يحتاج إلى تعاون دولي أوسع”.
ضعف المراقبة
وتتفق الباحثة السياسية في الشؤون الأفريقية ميساء نواف عبدالخالق مع الباحثين، إذ تقول إن “غزو الأدوية المغشوشة للأسواق الأفريقية عائد لضعف المراقبة من الجهات المختصة في تلك الدول، مما أدى إلى انتشار عصابات تجارة الأدوية المغشوشة، من بينهم موظفو شركات الأدوية، والمسؤولون العموميون، وموظفو إنفاذ القانون، والعاملون في الوكالات الصحية”.
وأكدت عبد الخالق أن “لا شك أن هذه الأدوية تؤدي إلى انتشار الأمراض والأوبئة وارتفاع معدلات الوفيات، لذلك يتوجب على الدول الأفريقية التشدد في العقوبات في حق المتورطين، وإيجاد آليات فاعلة بالتعاون مع الجهات الطبية لمراقبة سلامة الدواء، إلى جانب إصدار مزيد من التشريعات التي تسهم في القضاء على هذه التجارة المدمرة للبشرية”.
وأبرزت أن “هناك أسباباً عدة لانتشار هذه الظاهرة، منها ضعف الرقابة والفساد المستشري في أفريقيا، إضافة إلى الطلب المرتفع على الأدوية في مقابل عدم كفاية العرض، مما يدفع المرضى إلى اللجوء إلى البدائل الرخيصة، حتى لو كانت مغشوشة، كما أن عدم التشدد في إنفاذ القانون يسهم في تسهيل تهريب الأدوية عبر الحدود”.
وترى عبدالخالق أن “الدول الأفريقية أصبحت في خطر محدق أمام هذه الظاهرة الخطرة، ويجب مواجهة الوضع من خلال التدابير القانونية المناسبة قبل فوات الآوان، خصوصاً أن أفريقيا تعد من الأماكن التي تتنشر بها الأمراض، وبالتالي ملف الأدوية يجب أن يكون من أولويات السلطات في البلدان الأفريقية”.
ضرر وعبء اقتصادي
وفي سبتمبر (أيلول) من عام 2016، صادرت منظمة الجمارك العالمية عشرات ملايين الحبوب والأدوية المغشوشة في 16 ميناء حول أفريقيا، وكانت 35 في المئة من هذه الحبوب والأدوية موجهة إلى نيجيريا لوحدها.
وتعتبر نيجيريا وتوغو من أكثر الدول الأفريقية تضرراً من الأدوية المزيفة والمغشوشة، وهو أمر جعل هاتين الدولتين تبحثان عن توافقات إقليمية أوسع من أجل “تصد جماعي لهذا الكابوس”.
وقالت ميس عبسي، “هناك بالفعل عواقب لتزايد الأدوية المغشوشة في أفريقيا، من بينها أولاً عدم الفعالية والضرر، إذ غالباً ما تحتوي الأدوية المزيفة على مكونات أو جرعات غير صحيحة، مما يجعلها غير فعالة أو حتى ضارة، وهذا يمكن أن يؤدي إلى فشل العلاج والأمراض لفترات طويلة”. وأوضحت عبسي “ثانياً مقاومة المضادات الحيوية، إذ يمكن أن يسهم استخدام المضادات الحيوية المزيفة في تطوير سلالات من البكتيريا مقاومة للأدوية، مما يشكل تهديداً كبيراً على الصحة العامة. وثالثاً العبء الاقتصادي، إذ يؤدي علاج الأمراض الناجمة عن الأدوية المزيفة إلى فرض ضغوط مالية على أنظمة الرعاية الصحية والمرضى، مما يؤدي إلى زيادة تكاليف الرعاية الصحية”، وبينت أن “انتشار الأدوية المزيفة في أفريقيا يؤدي إلى تقويض ثقة الجمهور في أنظمة الرعاية الصحية والمنتجات الصيدلانية”.
استراتيجيات متعددة
من جهتها قالت الأمم المتحدة في تقرير سابق إن الأدوية المزيفة مصدرها الصين والهند بصورة كبيرة، وعلى رغم أن دولاً مثل نيجيريا تشهد تصنيعاً لهذه الأدوية، إلا أن القارة السمراء لا تستحوذ إلا على تصنيع نحو خمسة في المئة من هذه الأدوية.
وبحسب عبسي فإن “معالجة هذه القضايا تتم عبر اتباع استراتيجيات متعددة، بما في ذلك تعزيز الأنظمة التنظيمية، وتعزيز إدارة سلسلة التوريد، وزيادة الوعي العام، وتعزيز التعاون الدولي”.
وأشارت إلى “عوامل وتحديات قادت إلى هذا الوضع من بينها سلاسل التوريد المعقدة، إذ تتضمن مراحل متعددة، بدءاً بالتصنيع ووصولاً إلى التوزيع، مما يخلق فرصاً عديدة للأدوية المزيفة لدخول السوق”. وأضافت أن “هناك نقصاً للموارد أيضاً، إذ يفتقر عدد من البلدان الأفريقية إلى الموارد المالية والتقنية اللازمة لمكافحة الأدوية المزيفة بصورة فعالة”، مؤكدة أن “الأدوية المزيفة تمثل مشكلة عالمية، وتتطلب التعاون والتنسيق الدوليين لمعالجة المشكلة بفعالية”.
(أندبندنت عربية)

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.