افتتاح مهرجان قرطاج الدولي: إنّ تونس للفرح وإنها إليه راجعة

 يسرى الشيخاوي-

افتتاح الدورة الخامسة والخمسين لمهرجان قرطاج الدولي ليس كغيره من الافتتاحات السابقة فهو الذي تزامن مع مباراة تونس ومدغشقر، مباراة مصيرية تحدّد تأهل  تونس إلى الدور ربع النهائي في كأس أمم افريقيا من عدمه.
وفي بادرة، لاقت صدى إيجابيا، كان ركح المسرح الأثري بقرطاج فضاء لعرض مباراة الربع النهائي قبيل عرض الافتتاح" بحيرة البجع، وعلى المدارج، رفع الجمهور أعلام تونس، واشرأبت الأعين إلى الركح حيث تطل وجوه اللاعبين من الشاشة، وتراوحت الصيحات بين التحسّر على هدف ضائع، وبين الاحتفاء بالهدف الأول فالثاني فالثالث، ليدوي صدى الفرحة في المسرح الأثري بقرطاج.
وبانتصار المنتخب التونسي، تجلّى وجه تونس الضاحكة الحالمة، تونس التي تجمع كل أبنائها على قاعدة حبّها ولا تفرّق بينهم، تونس البعيعدة ن تقسيم السياسية الآسنة، الابتسامات تزيّن كل الوجوه دون استثناء، كل الحناجر تصرخ فرحا وانتشاء بالانتصار الذي يأتي في ظل ظروف سياسية  وأمنية عصيبة مرّت بها البلاد في الآونة الأخيرة.
 وما أجمل ذبذبات الفرح حينما تسري بين الأرواح وتخترق كل المسام فتغرقك في حالة من الخدر تنتشلك من سطوة الواقع، فلا تدرك من حولك إلا أهازيج الانتصار وسيل الزغاريد.
وعلى وقع النشوة بالنصر الكروي، تزينت كلمات النشيد الوطني بألوان الغبطة، وانسابت شامخة في وجه الانهزام والانكسار، وفيما يرفرف علم تونس في الشاشة على الركح، تهز الجماهير أياديها ملوّحة بالأعلام، وهي لا تنفكّ تردّد النشيد بأصوات كساها السرور.
وبعد موجة من التصفيق، بدت هي الأخرى مغايرة لكل سابقاتها بفعل فوز المنتخب التونسي، أعلنت ألحان " بحيرة البجع" ميلاد عرض عمره قرن وثلاثة عقود وسنتين، عرض كان مصدر إلهام لصنّاع الكوريغرافيا.
هنا تونس.. لا للنهايات الدرامية 
وعرض  "بحيرة البجع" ، الذي خطّ  باليه سان بترسبورغ الروسي تفاصيله على ركح مهرجان قرطاج، يقام لأول مرة في العالم العربي وإفريقيا، بمشاركة أربعين راقصا وراقصة يرسمون بخطواتهم معالم الأنوثة والحب في أربعة فصول تدوم ساعتين ونصف من الزمن.
وإن لم يكن العرض وفيا تماما للعمل الأصلي الذي صمّمه "ماريوس بيتيبا" سنة 1887 عن الموسيقار الروسي "تشايكوفسكي"، ثم أعاد "كونستنتان سارغيف"  تصميمه، فإنّ الباليه الروسي شدّ إليه أنظار الجمهور الذي ملأ المدارج، وكانت الأزياء من بين نقاط القوة فيه إذ حضر فيه اللونين الأبيض والأسود ليجسّدا صراع الشر والخير.
وفي العرض حضرت ألوان الحياة الاخرى، لتجسّر الهوة بين الأبيض والأسود، وزيّنت الركح سواء في علاقة بالأزياء أوالإضاءة التي وإن كانت فيها بعض الهنات في بداية العرض إلا أنّها تجاوزتها فيما بعد، وتظافر اللون واللحن والكلمة لتجسيد قصّة حب عابرة للواقع.
وعلى الركح حلّت الخطوات محلّ الكلمات، في إحدى الأعمال التي رسخت في تاريخ الموسيقى  الكلاسيكية، وفي عناق الرقص والموسيقى، تجلت القصّة الروسية التي طتبها المؤلفان في. بي. بيغتشين وفاستلي جلتزر.
وطيلة أداء الفصول الأربعة من "بحيرة البجع"، كانت كل التفاصيل تشير إلى الأنوثة، من سلاسة الخطوات إلى نعومة الانحناءات، وحركات الأرجل والأيادي التي صارت شبيهة بأجنحة وكأنّ أجساد الراقصين تترفّع عن ملامسة الأرض باستمرار.
وعلاوة على النعومة والمرونة اللتين بدتا واضحتين في حركات الراقصات والراقصين، كان الانسجام والتناغم من السمات اللافتة في كل خطوات الباليه الروسي، حتى كأنك تخال أنّ كل تلك الأجساد تحرّكها روح واحدة، روح قوامها الخطوة واللحن.
في الفصل الأوّل من العرض، تستسلم كل الأجساد إلى الرقص، في باحة القصر الملكي، ويرتسم الاحتفاء بعيد ميلاد الأمير في انسيابية الأيادي ونعومة القفزات، ويحتدم صراع الفتيات في الضفة الأخرى، يكدن يعانقن السماء وينتفضن خارج الركح في محاولة لإغواء الأمير واستدرار نظرة ودّ منه، ولكنه يولي وجهه شطره الغابة للصيد متسلحا بقوسه وهاربا من حديث والدته عن الزواج.
الأمير سيغفريد، وحيد، يهتز وينتفض ويقارع ضجيج نفسه بهدوء بحيرة البجع، هدوء أخذه من أفكاره فظل يراقب حركة البجعات وهن يترنحن وكأنهن احتسين شراب النشوة لتستأثر بجعة منفردة متفرّدة باهتمامه، وما إن يداعب النعاس عيون الشمس حتى تصبح البجعة فتاة ساخنة، وتطلق الموسيقى للعنان للأجساد تتراقص على إيقاع الملحمة.
خطوات متناسقة وحركات متماهية تحاكي امتدادات موسيقى تشايكوفسكي، أداء جماعي ساحر لبجعات البحيرة التي لم تكن إلا تراكما لدموع أهال يبكون الأميرة وبناتهن التي حوّلتهن لعنة ساحر شرير متلوّن إلى بجعات.
الأقدام تتعفف عن لمس الأرض والأعناق ترنو إلى السماء، إلى الانعتاق والتحرر، إلى فك اللعنة على أعتاب الحب، وولكن الرقصة تكتمل في اتجاه آخر ، في قلب الدموع قبل أن تتعانق أنفاس الأمير والبجعة الجميلة أوديت، وينتهي الفصل الثاني من حيث انطلق، الأمير على شفا البحيرة وحيدا شريدا.
وفي الفصل الثالث، من عرض بحيرة البجع، تجسّد اهتزازات الراقصين، هدوءهم وصخبهم، سكناتهم وحركاتهم، كل التناقضات التي تسم المشاعر، الحب والكره والأنانية والحيرة والشوق والوصال والخديعة.
الألحان تترنّح على وقع الدسائس التي يحيكها الشرير فون روثبارت الذي يبغي إطفاء شعلة الحب، وإيذاء قلب البجعة الجميلة بأن جعل ابنته أوديل في هيئتها، واعترف الأمير بحبه لغير البجعة التي كانت ترقب كلماته وتنشد بها الخلاص ، وغادرت مكان الترح بقلب مكسور، وعقبها باعث الألم بعد أن تعرت له الحقيقة.
ولأن تونس لا يليق بها إلا الفرح، فإن نهاية العرض كانت مغايرة للنهاية الأصلية، لا للدراما ولا للنهايات التراجيديية، لم تمت البجعة وانهزم الشر وانتصر دين الحب، وعمّت أسارير الفرح وجوه الراقصين، كما دبّت الغبطة في قلوب التونسيين بعد فوز المنتخب التونسي.

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.