افتتاح أيام قرطاج الموسيقية: عن زمن موسيقي يمتد من البدء الى اللامنتهى

 يسرى الشيخاوي- 

 
بين الحياة والموت احتمالات كثيرة، وبين الموت والبعث فسحة تسمّى برزخا، وجود وعدم يتلوّنان بأصوات مختلفة يتماهى فيها الشجن بالابتهاج، هي الموسيقى في تجلياتها المختلفة قبل البدء وبعد الخلاص، هي تلك السيرورة التي لا تعترف بالفناء.
 
الموسيقى " المنقذ" و"الأسمى" في نظر نيتشه وأرسطو، "أنقذت عشّاقها في افتتاح الدورة السادسة لأيام قرطاج الموسيقية من سطوة الواقع ووجع الموت وسمت بهم إلى عالم لا ولي فيه ولا سيّد إلا الموسيقى بتمظهراتها اللامتناهية كأسئلتنا عن الخلق والبعث وما بينهما من احتمالات ممكنة وغير ممكنة.
 
تقديم مسرحي للافتتاح وسمته إطلالة ملائكية للصحفية رباب السرايري، وحديث للمدير الفني لأيام قرطاج الموسيقية عماد العليبي عن البرمجة وعن ضيوف التظاهرة، وكلمة لوزير الثقافة محمد زين العابدين قبيل تكريم الفنانة منيرة حمدي في شخص ابنها، لتكون  الموسيقى لغة عرفان وحافظة ذكرة فنانين رحلوا عن هذا العالم ولكن ظلت أصواتهم تصدح بالغناء.
 
"الموسيقى والفن والثقافة في سيرورة دائمة ومن خلالهما تستمر الحياة"، خلاصة حديث وزير الثقافة عن التكريمات التي شملت أيضا الفنان لطفي جرمانة الذي غيّبه الموت منذ يومين، والفنان حسن الدهماني والفنان الجزائري رشيد طه والفنانة الفلسطينية ريم البنا.
 
وروح فقيد السينما شوقي الماجري خيّمت هي الأخرى على افتتاح أيام قرطاج الموسيقية، أوليست الموسيقى التصويرية التي تخلقها أنامل أمين بوحافة، ركن من أركان الأعمال الدرامية والسينمائية، وحينما يعجز العقل عن استيعاب موت مبدع فإن الموسيقى قد تكون تعبيرا يحفظ الذكرى.
 
وبعد مناظرة بين المترشحين للدور الثاني للانتخابات الرئاسية، سكتت السياسة عن الكلام ونطق لسان حال الموسيقى ليرواد هاجس الانعتاق من العالم المادي وحدوده وقيوده، وحينما نطق الكمان نوتته الأولى أعلن عن رحلة التماهي مع هواجس الموسيقي أمين بوحافة ومحاكاتها في صعودها وانحنائها دائما في اتجاه الأعلى، هناك حيث تشعر أنّ الموسيقى تحكيك.
 
موسيقى ترشح عاطفة وشجنا وسحرا، حالة من الوجد يترجمها أمين بوحافة إلى ألحان ونغمات تلامس شغاف القلب وتثير في العقل الأسئلة، ليصنع لنفسه اسما رنّانا في مجال الموسيقى التصويرية، موسيقى تجعلك تتجاوز الواقع ليتحوّل ركح قاعة الاوبرا بمدينة الثقافة إلى مسرح للحياة تجلّت فيه وجوه فنانين ومبدعين رحلت أجسادهم ولكنّ صدى أنفاسهم العابقة بالفن مازال يتردّد في أركان المدينة، هم نجيب عيّاد وشوقي الماجري وشييراز بوزيد ومنيرة حمدي ولطفي جرمانة وحسن الدهماني.
 
قد تشعر أنّك مغترب في واقع تغلب عليه الصراعات ويكون فيه الاختلاف جريمة تجعلك في مواجهة أحكام جاهزة، ولكن موسيقى أمين بوحفّة والأركستر السمفوني التونسي بقيادة "محمد بوسلامة" تنفض عنك غبار هذا الإحساس وتسافر بك إلى ذاتك متجاوزة كل الحواجز.
 
موسيقى تتجاوز المألوف، تأخذك إلى ما هو أبعد من التقسيمات الموسيقية والألحان والأصوات، ترفض السائد والنمطي والثابت، هي حالة متحرّكة متحوّلة تبدأ من الإبداع وتنتهي إليه، قد تبدو لك المقطوعات الموسيقية خرافية أحيانا، ولكن إذا ما عرفت أن أمين بوحفة بدأ العزف على البيانو في سن الثالثة ليتحصّل على ديبلوم الموسيقى العربية وهو في سن الثانية عشر قبل أن يدرس البيانو الكلاسيكي والهارموني وعزف الأوركسترا في فرنسا.
 
 أعمال عاطفية، لا تخلو من حس مرهف وتنم عن عشق للموسيقى العربية، هي كتابة فوق الكتابة لسيناريوهات مسلسلات أو أفلام، موسيقى تحكي الحياة في أحشاء أجسادنا وخارجها حتى بعد ان تفنى هذه الأجساد، حياة بتفاصيل تختلف من إنسان ّإلى آخر نغرق فيها ولا ننتبه إلى أنّ الموت يمكن أن يقفز أمامنا من ركن ما، ولكن وإن فنى الكل وفنى الوجود يظل صوت الموسيقى يؤنس الفراغ.
 
مقطوعات موسيقية، عزفها أمين بوحفّة بقيادة المايسترو محمد بوسلامة وهو في حالة تناغم تام مع البيانو، تماه بين فنان وآلته الموسيقية يدفع إلى التفكّر في ماهية تلك الروح الموسيقية التي تخيّم على مسرح قاعة الأوبرا في أوّل حفل لبوحفّة في تونس. 
 
موسيقى مسلسل "جبل حلال" للمخرج "عادل الأديب"، وموسيقى مسلسل "طريقي" للمخرج "محمد شاكر خضير"  ومعزوفتين من مسلسل "غراند أوتيل" للمخرج "محمد شاكر خضير" وأربع معزوفات من فيلم "تيمبوكتو" للمخرج  "عبد الرحمان سيساكو"، وقطع موسيقية أخرى من "باب الخلق"  و"حارة اليهود"، و"أهو ده اللي صار"، و"لا تطفئ الشمس"، أعمال لأمين بوحفّة عزفها مع الأوركستر السمفوني التونسي فيما عرضت مشاهد من الأعمال الدرامية والسينمائية على الشاشة.
 
احتمال أنّك لم تشاهد بعض الأعمال وارد ولكن سحر المويقى وعمقها إذا ما امتزج مع المشاهد التي تزين الشاشة خلف الركح في إخراج يلفت الانتباه يجعلها مألوفة لديك، خاصة إذا ما تفحّصت في حركات أمين بوحفّة وهو يتفاعل مع البيانو ومع العازفين من حوله.
 
وأمين بوحفّة الذي يتردّد صدى اسمه في الدوائر السينمائية لتفرّد الموسيقى التصويرية التي يخلقها، لم يمر دون أن يهدي موسيقى إلى روح المخرج التونسي  شوقي الماجري، فكانت "كدة يا قلبي"’ تعبيرا عن لوعة الفراق وعن الاشتياق والوجع الذي يخلّفه اجتياح الموت، وعلى المسرح انبعث زمن موسيقي  يمتد من البدء الى اللامنتهى، زمن لا يعترف بالموت.
 
انتقال عذب من معزوفة إلى أخرى يقطع تسرب الملل إليك، خاصة وأن فنانين أدوا بعض الأغاني خلال العرض وهم راقية ناصر وعبير دربال والفنانة الايرانية عائدة نصرت لتتظافر الموسيقى مع الكلمات وأحاسيس المؤدين ويتّخذ العرض في كل مرة معنى جديد ينتهي عند موسيقى " العراب"  لـ"مارلين براندو"، ليكون افتتاح أيام قرطاج الموسيقية نافذة على عالم جميل رسمته أنامل الفنان أمين بوحفّة الذي خطّ مسيرة ابداعية خارج تونس.
 
 
 
 
 
 
 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.