بقلم: محمد علي الصغير

لعل تغير الخارطة السياسية في بلادنا وانقسام السلطة بصفة جلية بين القصبة وقرطاج وبروز تنافر بل وعداء سياسي بين الجهتين افرز حالة من الاضطراب والبلبلة لدى عموم الصحفين والإعلاميين.

هذه الوضعية المستجدة في بلادنا والخارجة عن نمط الحكم التقليدي الذي لطالما استأثرت خلاله جهة واحدة بالحكم وبمفاصل القرار باتت تفرض علينا اليوم التكيف بطريقة ذكية وفيها من المناورة والدهاء الشيء الكثير حتى لا يحسب الصحفي على طرف دون آخر. هذا الواقع الجديد والمتغير أيضا بات يفرض علينا طرح مسألة واقع الإعلام عموما و بالأخص جدلية الإعلام في علاقته بالسلطة. 

لعل من المضحكات المبكيات اليوم وهو مثل معبّر لما نمر به، ما يحدث في مؤسسة اعلامية عمومية نسختها العربية تقف موقف الناقد والمعارض صراحة وبكل شراسة للحكومة في حين أن نسختها الفرنسية ظلت وفية للمبدأ التقليدي للإعلام العمومي. ولعمري هذا دليل واضح على هذا الانفصام الذي نعيشه اليوم في مستوى احترام الخط لتحريري والانضباط بالقيم الإعلامية والذي ساهم في تغذيته وضعية إعلامية اتسمت بالعبث والميوعة ومشهد مرتبك ومتعفن.

ولئن قُدِّر لنا ان نكون اللسان الذي ينطق به السياسي ليبلّغ أفكاره ورسالاته الى عموم الشعب، فإنه من باب المحظور أن يكون الصحفي الوقود الذي تُأججُ به هذه النار المستعرة بين رجال السياسة على اختلاف مواقعهم ومشاربهم الفكرية والإديولوجية والعقائدية ومناصبم السيادية أيضا.

ولم يعد من باب المحظور الحديث اليوم عن إعلام، أصبح بشقيه الخاص والعمومي، منبرا للشحن السياسي والايديولوجي وفتيلا لاندلاع نار الفتنة بين أبناء الوطن الواحد وهذا ما نلمسه أحيانا لدى بعض خبراء المنابر التلفزية والإذاعية وأدعياء الكلمة الحرة والصادقة  – وما أكثرهم- والذين أصبحوا بمثابة الأبواق التي تصرخ عاليا لإعلاء راية حزب أو تمجيد تيار سياسي معين أو إيديولوجيا مقيتة، وديدنهم في ذلك وشعارهم الأساسي «من يدفع أكثر». وهو ما يجرنا حتما الى الإشارة الى فرضية تورّط بعض وسائل الإعلام التي تتبناهم وتفسح لهم ولبعض السياسيين المجال واسعا لبث سمومهم،  في ما يسمى بالتمويل السياسي الذي يكاد اليوم يطلق الرصاصة الأخيرة على جسد قطاع منهك ومتهاو.

إن إصرار السلطة السياسية، او لنقل السلط بما في ذلك "سلطة" المعارضة، تسعى اليوم جاهدة الى استمالة، الى حد التجييش، رهطا معينا من الاعلاميين المؤثريين لدى الرأي العام دون غيرهم… ولئن اختلفت الوسائل والمناهج في إقناع البعض من هؤلاء بالالتحاق بركب المهللين والمكبرين والُمطبِّلين فإن النتيجة لا تخفى على العيان… نحن اليوم أمام مشهدية إعلامية-سياسية تتسم بالارتباك والضبابية الى حد العبثية.  

ولعل ما قامت به مؤسسة رئاسة الجمهورية مؤخرا من انتقاء مدروس لبعض الاعلاميين دون غيرهم حتى يغطّوا الندوة الصحفية لرئيس الجمهورية، دليل قطعي على هذه المحاولة البائسة من قبل السّلطة السياسيّة على احتواء الاعلام وتدجينه وخلق نوع جديد-قديم من اعلام البلاط كما كان يفعل الملوك والسلاطين سابقا مع شعرائهم ومقربيهم من ذوي الخطابة وأصحاب اللسان  الطليق والسليط. ولئن ننزه ونبرئ زملاءنا من هذه المحاولات البائسة مدركين تماما مدى حرفية أغلبهم والتزامهم بأدبيات المهنة وأخلاقياتها، الا أنه من المهم الإقرار أن ما أتته مؤسسة الرئاسة هدفه السعي الى التفرقة وتقسيم القطاع وتشتيته ومحاباة وسائل اعلامية دون أخرى وخلق مناخ من التصادم والمناكفة بين أبناء القطاع الواحد. 

هذا التوجّه تجاه القطاع الاعلامي والذي دفع عديد الهياكل وعديد المؤسسات الى إصدار بيانات منددة بهذا التصرف المشين، لا يجب أن يبقى حدثا عابرا خصوصا أن شطحات رئيس الجمهورية كثيرة في هذا المجال ولا تكاد تحصى. فاعتداءاته اللفظية والمعنوية وتعمّده في أكثر من مناسبة إهانة الزملاء تعكس هذا النفور من وسائل الإعلام التي تتعمد إحراجه أو "المس من هيبته" كممثل سام للسلطة. وكلامنا هنا ينطبق أيضا على الكثير من   السياسيين بمختلف مواقعهم الذين يتعاملون مع الإعلام حسب أهوائهم ورغباتهم لغاية في أنفسهم نعلمها بالتأكيد.

وفي واقع الأمر ولئن ظلت هذه الممارسات مدانة بكل المقاييس الّ أنها تجد من يبرره ويٌشرِّع لها وحجة من يفعل ذلك هو أن الإعلام والسلطة هما خطان متوازيان لا يلتقيان الّا إذا قبل الإعلام أن يتماهى أو ينصهر في اللعبة أو الإرادة السياسية للحاكم. وهو ما كان معمول به لمدة عقود في بلادنا وما تسعى السلطة السياسية اليوم الى تحقيقه من خلال إعادة الإعلام الى المربع الأول وإرجاعه قصرا الى بيت الطاعة.

يقف الإعلام اليوم في مفترق خطير ومنعرج مصيري وهو اليوم قبلة كل الطامعين وغاية كل المتربصين بحرية الكلمة، والساعين الى تدجينه وتوظيفه مستغلين في ذلك الحالة المتردية التي أصبح يمر بها هذا القطاع خصوصا في ظل تخبط العديد من المؤسسات الإعلامية في الأزمات المادية. الشيء الذي أعاد الأمل للسلطة اليوم وفي ظل ما يعبر عليه اليوم بالتحوّل الديمقراطي الى بسط نفوذها من جديد واستعادة "أمجاد" لها كانت قد سُلبت منها قسرا. 

ولعل الأيام القادمة ستكون المحك الحقيقي الذي سيمر به قطاعنا خصوصا في ظل التطورات القادمة واحتمال كبير لتدهور البيئة السياسية واحتقان الأوضاع وانقسام الساحة السياسية واندلاع مطاحنات ومعارك سيلعب الإعلام حتما دورا رئيسيا في حسم مصيرها. 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.