أولاد أحمد …رحل مكللا بالحب والقصائد

هنيئا لك بهذا العُرس التّاريخي. أنت ما مُتّ أيّها الشّاعر. ها أنّك تشاهد البلاد التي تحبّ وهي تعلن خلودك في وجدانها.. وهي تزفّك كما يُزّف العظام. زغاريد الحرائر من هنا وقصائد تُرتّل من هناك. هكذا يزفّ المبدع و على هذه الإيقاعات يترجّل عُشّاق الوطن. هنيئا لك بموتك أيّها الشّاعر.

جميعنا شاهد كيف اكفهرّت سماء تونس أمس عند إعلان خبر رحيل أولاد أحمد الذي ترجّل بعد صراع مرير مع المرض غلبه بالشّعر مرّات و بالقلم مرّات وبالحبّ مرّات ثم سلّمه نفسه و سلّمه معها "حبّ البلد".

غادرنا شاعر أخضر كخضرة تونس..غادر وهو يحمل بيد كتابا و بالأخرى وردة أهداها للموت الذي ظلّ يترصّده طويلا …نعم ظلّ يتبع خطاه الأخير ينتظر لقاءه …فحتّى الموت مثلنا يعشق الإبداع و يحبّ الجلوس إلى القامات الباسقة.

"الصّغير" طلّق اسمه باكرا و كان كبيرا كغابات الشّعر التي غرسها طيلة مسيرته. أجل كان كبيرا بحبره الذي غطّى كلّ ربوع تونس و الوطن العربيّ…و ما أصعب أن تجد شاعرا يكتب للجميع من المحيط إلى الخليج في عصرنا هذا." الصغيّر" ظلّ كبيرا  بإرادة الحياة التي زرعها في شعبه و في محبّي شعره.

الصّغير كان كبير الشّأن حين حمل بين طيّاته ملامح تونس التي شغلته عن كلّ الدّنيا . أخذ عن الشّعانبي و بوقرنين شموخهما…و عن صحراء الجنوب رحابتها فكانت قصائده تعبّر عن كلّ الوطن بهمومه و أفراحه ، باحتفالاته و آهاته. سكنته رائحة سيدي بوزيد فظلّت كلماته ثائرة حتّى النّهاية ترفض السّقوط و الإذعان . هكذا صُبغ الشّاعر بالهوى التّونسي حتّى لحظة الرّحيل . فتلحّف بالنّجمة والهلال وهو يحثّ خطاه إلى "الجلّاز" ليركن إلى الرّاحة حذو أحرار آخرين من الوطن.

عاصر أولاد أحمد لحظات استقلال تونس طفلا يحبو في قرية "النّوايل" بسيدي بوزيد مهد الانتفاضة الدّيسمبرية الحرّة فيما بعد . كان ذلك في الرّابع من أفريل 1955. ميلاد يؤشّر بوضوح لولادة شاعر تونسي يعشق الحرّية و يمقت القيود التي تكبّل كلّ قلم و كلّ حنجرة.

كتب الشّاعر في تونس أبهى الكلام فحفظ الجميع مثّقفا كان أو بسيطا "نحبّ البلاد كما لا يحبّ البلاد أحد" و تغنّت بها "يافا يونان" صاحبة الصّوت الأوبرالي السّاحر مانحة طيور الشّام فرصة الإحتفاء بهذه الحروف كما احتفت بها الحمائم في سماء قرطاج والزّيتونة.

بدأ نزيف الكتابة يزداد في نهاية السّبعينات . و بدأت الحريّة تجد لها نوافذَ في كتابات الرّاحل . فدفع الضّريبة حين تمّ سجنه في الثّمانينات لتصادر كتاباته في زمن الرّئيس المخلوع بن علي.

ولأنّ الشّعراء عشّاق للحريّة بطبعهم فقد واصل الرّجل المسير متغنّيا بالحياة تارة و بالحبّ و الوطن طورا . فكان له "نشيد الأيّام الستّة" و بعده "ليس لي مشكلة" ثم نشر بعد الثّورة "حالات الطّريق" . و نثرا أصدر "تفاصيل" في بداية التّسعينات ثم "القيادة الشّعرية للثّورة التّونسية" بعد عامين من هبّة السّابع عشر من ديسمبر – الرّابع عشر من جانفي.

أولاد أحمد وظّف كلامه حتّى خارج الشّعر و الكتابة و صدح كلّما تحيّن الفرصة في وجه الغربان النّاعقة من "مروّجي الإستبداد" إلى "دعاة ثقافة الموت العاتمة". فكان سلاحه "التّوق إلى الحريّة" و "حبّ البلاد" فحقق ما أراد حين نعت الحريّة عاشقها و بكت البلاد حبيبها في الخامس من أفريل الجاري.

ترجّل الفارس مكلّلا بالحبّ و القوافي…غادر موشّحا بالقصائد الحلوة و الكلمات العذبة …غادر تاركا شعبه يردّد " و إن قتّلونا كما قتّلونا…و إن شرّدونا كما شرّدونا …لعدنا غزاة لهذا البلد"….غادر و ترك لنا القصائد و الكلمات….لنا ولابنته "كلمات".

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.