“أطياف” مهدي هميلي.. تونس بلا مساحيق تجميل

 يسرى الشيخاوي-

هل جربت الوقوف وجها لوجه مع تونس العميقة، تونس بتفاصيلها الممتدة من الفرح الى الترح ومن اليأس إلى الأمل؟

هل خبرت الولوج إلى دهاليزها وثناياها الحالكة واقتفاء أثر نقاط الضوء التي لا تظهر إلا تتلاشى مجددا؟

هل حاولت أن تمرر أناملك على جراح سكانها وكلما حاولت أن تحصيها توسع الفتق وأخطأت العد مرارا وتكرارا؟

هل فكرت في أن تغالب كل المخاوف داخلك وتمضي بعيدا بعيدا حيث لا يمكن للكل الوصول، حيث تكابر الذوات وهي ترتدي وجوها غير وجوهها؟

هل خمنت يوما أنك ستقف في نقطة فاصلة بين مرحلتين، نقطة تعادل الثورة تربكك وتهز داخلك وتلقي بك في هوة  ملغمة بأسئلة لا تجد أجوبتها؟

في فيلم "أطياف" للمخرج مهدي هميلي، ستخوض تجربة وجودية حسية ويتأرجح داخلك على إيقاع ثنائيات كثيرة، الحياة والموت،  الأنا والآخر، الفرد والمجتمع، الوهم والحقيقة، الخيال والواقع…

في العاصمة تونس، تدور أحداث الفيلم في فضاءات تراود ذاكرتك البصرية وتغوي ذكرياتك، وانت تلاحق كاميرا مهدي الهميلي التي تنجذب إلى التفاصيل الدقيقة، وإلى الهامش في نقاطه القريبة جدا حد البعد.

السيناريو محكم الحبكة والموغل في الواقعية يقوم على قصة "آمال" (عفاف بن محمود) التي تبحث عن وسيلة ما لتحقق حلم ابنها في أن يصبح لاعب كرة قدم وحينما تقترب من مبتغاها تشهد حياتها منحى دراميا قلب المعادلات غير الثابتة أصلا.

فيما تحاول الأم  أن تجعل من حلم ابنها حقيقة، يستغل أحدهم الأمر ويستبيح جسدها وينتهي بها الأمر متهمة بالزنا والتجاهر بما ينافي الحياء وهي التي استمسكت بالصد وقاومت الذكر "عماد" (حكيم بومسعودي) الذي جثم فوقها كما الموت.

التراجيديا تتفاقم في الفيلم، والابن مؤمن (يحي بوستة) يفرط في حلمه وينحدر إلى قاع تونس ويتأصل في هوامشها وليلها وتمّحي حياته السابقة ويولد من جديد وسط عالم عنوانه غموض لا يؤدي إلا إلى المجهول.

بعد خروجها من السجن تبحث الأم عن وحيدها، لكنها أيضا كانت تبحث عن ذاتها التائهة في غياهب مجتمع ذكوري يفرض على أفراده حالة فصام مزمنة ويحول دونهم ودون رغباتهم لتتراكم طيلة السنين وتصير قاتلة..

في دوامة البحث عن ابنها، تواجه الأم ذات المجتمع المتناقض، فستة أشهر في السجن لن تغير الكثير، وفي الأمر إحالة إلى الثورة التي لامس التغيير فيها السطح فحسب وظل الجوهر والعمق يراوح مكانه ولا يتغير..

إمرأة وحيدة في رصيدها قضية زنا، تصارع الوصم والأعين التي تخترق تفاصيل جسدها ومحاولات مساومتها من أجل إيجاد ابنها، فيما تخلى زوجها عن دوره كأب قبل أن يطل في الاخير إطلالة أشد وجعا من غيابه.

وعبر تغييب الأب "طاهر" (نور الدين صولي) ، يقتل المخرج الأب والسلطة الذكورية ويترك الخلاص بيد الأم، حواء التي تجيد تحريك اللعبة وتتمثل طريق الخروج تماما كما فعلت في واقعة التفاحة..

والمرأة في "أطياف" وتد ترتكز عليه كل الاحداث وصولا الى جينيريك النهاية حيث تطالعك مفردات " إلى أمي"، ومن خلالها يمرر رسائل كثيرة عن الحرية وعن الحياة وعن الجسد..

والفيلم الذي تحضر فيه تيمة الحرية في تجليات مختلفة، ويستمد تفاصيله من الجسد وتمثلاته وتعبيراته وهوياته الجنسية والجندرية المختلفة، ليس إلا تأويلا سينمائيا لمآلات الثورة في تونس ومحاكاة للسوداوية التي لا تبرح الهامش والقاع.

الاستغلال، وتجارة الجنس، والتمييز، وتجارة المخدرات، والوصم، عالم الليل بكل تفاصيله كان حاضرا في الفيلم ولاحقته كاميرا مهدي هميلي وهي ترصد شخصية "مؤمن" في مختلف حالاتها وتواسي الام في بحثها عنه.

عن استشراء الفساد، وتغول اللوبيات، وقمع الحريات وانتهاك الحقوق، واحتدام اليأس وضيق الأفق، تحدث الفيلم دون مباشرتية وساءل الثورة والمسؤولين بأسلوب سينمائي يترك للمشاهد فرصا للتأويل.

وعبر تضحية أم في سبيل حلم ابنها، يثير المخرج علل تونس التي لم تنته بقيام الثورة بل تغلغلت أكثر فأكثر ومدت لها جذورا في المجتمع واستبطنها الافراد، وهو ما بسطته بعض المشاهد التي ظهرت فيها بعض الشخصيات بدور الواعظ.

من بين الشخصيات، "آمال" نفسها التي تلقت نبأ ثقب ابنها لأذنه وارتدائه أقراطا ورغبته في وشم بكثير من الغضب، شقيقها "سليم" (الراحل توفيق البحري) لم يتردد هو الآخر في فرض الوصاية على أخته وجسدها ووصمها في تجل واضح للعقلية الذكورية.

مشاهد الفيلم لا تخلو من التراجيديا، حتى في بعضها الذي يعلو فيه صوت الموسيقى وتتراقص فيه الأجساد، لكن الافراد فيها يبدون كأطياف تعيش في عالم غير عالمها وترتهن لوصايا لا تطيقها..

وعلى ايقاع التراجيديا، تكتشف الشخصيات في الفيلم جوانب أخرى منها وتسعى جاهدة نحو الحب غير  عابئة بالعنف والسواد من حولها ولا بالقيود والاغلال التي ربطتها حول أعنقها وقدمت مفاتيحها لسجانيها.

وبين محاولات التحرر من السلطة البترياركية والدينية، يخرج "مؤمن" والشخصيات التي التقاها حينما ارتطم حلمه بالواقع ومات قبل اكتماله، من وراء الابواب المغلقة ويحاولون العيش كما يشاؤون ولكن ليلا.

في الواقع لم يتغير الكثير، والحرية مازلت سجينة العقليات المتكلسة، والفساد ملأ كل الفراغات واخترق الجهاز الأمني الذي يمثل إحدى حلقات عالم الليل في الفيلم، بل إنه أعنف الوجوه فيها.

وان كان العمل السينمائي محملا بالوجع واليأس في تفاصيله، إلا أن رحلة البحث عن الإبن المفقود تنتهي ببصيص من الأمل، وكأن المخرج يبعث برسالة أمل مفادها أن لا بد لليل أن ينجلي ولا بد القيد أن ينكسر ولا بد للثورة أن تعانق أهدافها.

رؤية مغايرة، يطرحها فيلم "أطياف" اختصر فيها فوضى الواقع في تونس بعد الثورة في ساعتين تكثفت فيهما الدراما وروت فيها الإضاءة حكايات كثيرة راوحت بين التلميح والتصريح، واخترقت فيهما حركة الكاميرا الداخل وترجمت الموسيقى انفعالات كثيرة.

هي تونس بلا مساحيق تجميل، تبدت في فضاءات التصوير المختارة بدقة وفي أداء الممثلين الذين تقمصوا الشخصيات كما أنهم هم في ولادة أخرى وأجادوا التعبير عن حالاتها النفسية والذهنية المختلف، الأمر الذي يحيل الى نجاح الكاستينغ وإدارة الممثل.

وطيلة الفيلم، أغدق الممثلون على الشخصيات وأدوها ببساطة ودون مبالغة في الأداء، كما نشأت كيمياء بين الممثلين الذين تجمعهم ذات المشاهد  التي بدت وكأنها مقتطعة من الواقع.


و"أطياف" من تأليف وإخراج مهدي هميلي، ويشارك في بطولته نجوم تونسيون منهم عفاف بن محمود وحكيم بومسعودي وإيهاب بويحيي وسارة حناشي وسليم بكار وعزيز الجبالي ومراد الغرسلي ونعمان حمدة وأحمد الطايع والفنانة  زازا  في تجربتها السينمائية الاولى، تجربة أثبتت فيها قدرتها على التمثيل، فيما ألف الموسيقى التصويرية  الفنان  التونسي أمين بوحافة، وهي موسيقى بنت بيئة الفيلم المشحونة بالرفض والحرية والثورة والبحث عن الذات.

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.