"المادّة الشخمة"رهان المستقبل!

عاشت جميع فئات المجتمع التونسي خلال الأيّام الأخيرة على وقع العودة المدرسية التي شدّت الاهتمام الأكبر للمواطنين على حساب حتّى بعض القضايا الأخرى الوطنية الهامّة من قبيل مسألة مشروع  قانون المصالحة الاقتصادية ومن خلفها قضيّة العدالة الانتقالية.

الانشغال الكبير للرأي العام بافتتاح السنة الدراسية الجديدة يستبطن أهمية الشأن التربوي لدى عموم التونسيين رغم تراجع قيمة الشهائد العلمية و تقلّص حظوظ التشغيل بالنسبة للمتخرجين من التعليم العالي.

لقد أرست دولة الاستقلال التي هي امتداد لحركة إصلاح و تحديث متجذرة في التاريخ ثقافة العلم و المعرفة و التربية لدى أجيال من المواطنين مما صنع مجتمعا عصريّا مازال بصدد شقّ طريقه نحو أنوار الحداثة، رغم الأنوميا و المثالب التي تعتريه.

الزعيم الحبيب بورقيبة أوّل رئيس للجمهورية وصاحب مقولة "المادّة الشخمة" في إشارة إلى الذكاء البشري و ملكة التفكير،كان مؤمنا بقيمة التعليم في تثوير الذهنيات والارتقاء بمكانة الفرد اجتماعيا و ثقافيا،فخصّصت الدولة في عهده خلال بعض الفترات ما يناهز ثلث ميزانية المصاريف لفائدة القطاع التربوي في الوقت الذي انصبّ فيه اهتمام أغلب القادّة العرب وقتها في مظاهر الأبّهة و تعبئة الموارد العسكرية على حساب استحقاقات مجتمعية ذات أولوية.

ولم يمنع الاستبداد السياسي الذي كرسته دولة الاستقلال من تخريج المعاهد والجامعات التونسية لأجيال من النخب الثقافية والسياسيّة والمدنية العضوية بعبارة غرامشي ،و التي حملت على عاتقها آمال التغيير و الانعتاق صوب المواطنة والممارسة الديمقراطية التي ظلّت الحلقة الأضعف في المشروع البورقيبي الاصلاحي.

لكن اليوم وبعد أكثرمن نصف قرن من الاستقلال،ساءت أحوال منظومة التربوية التي تردّت من الهرم إلى القرم،وباتت مصدرا لاغتيال العقل الناقد و المفكّر الذي أضحى في الكثير من الحالات مفرغا من أيّ معنى.

لقد تغلغلت الأفكار الطوباوية و الغوغائيّة في أذهان الكثير من خريجي المدرسة و الجامعات التونسية.فهذا لا يزال يحلم بدولة إسلاميّة وخلافة على منهاج النبّوة! و الآخر يصرّ على التمسّك بمشروع إقامة نموذج شيوعي على شاكلة رفيقيه لينين و ستالين دون النظر بشكل عقلاني للواقع و مقتضياته! أمّا عن المنغرسين في أوهام الوحدة القوميّة العربيّة المستحيلة فحدّث ولاحرج!

و  من جهة أخرى،توقفت عقارب ساعة التاريخ لدى البعض عند نوستالجيا الماضي البورقيبي أو النوفمبري الغابر دون تقييم موضوعي من شأنه إتاحة المجال لمراكمة التجربة و البناء للمستقبل على قاعدة التخلّص من الارث الاستبدادي و التطلّع لتشييد الصرح الديمقراطي المواطني بروح المسؤولية.

إنّ مثل هذه الأنساق الذهنية ليست وليدة الصدفة،بل هي نتاج لانخرام منظومة تربوية زادت من حدّة افرازاتها السلبية سياسات الدولة العبثية في قطاع يحتاج إلى نظرة تأملية عميقة و مقاربة إصلاحيّة تشاركية واسعة النطاق في انتظار التعجيل بسدّ الثلمات التي تكاد تؤدي بالمجتمع إلى النكوص للوراء عوض السير في اتّجاه المستقبل المثقل بالرهانات والتحديّات الملحة.

في الحقيقة،لا يحتاج الاصلاح التربوي إلى خطابات رنّانة و بهرج إعلامي،بقدر ما يتطلّب جرأة في المضي في إرساء مناهج و مضامين تربوية تحديثية و عقلانية جديدة خارج بوتقة الشعارات الفضفاضة الهوويّة أو السياسويّة التي لا تغني و لا تسمن من جوع.

إنّ رهان المستقبل في تونس لا يمكن قطّ أن يكون سوى في العمل للرفع من مكانة"المادّة الشخمة"و البحث العلمي في إطار مشروع وطني جامع بما يختزنه من قيم و مبادئ قادرة على تفجير ثورة ثقافية و مجتمعية متّسقة مع التطوّر السياسي الذي عرفته البلاد منذ 2011. فهذا هو السبيل الوحيد للخلاص من براثن الفقر و التخلّف و مظاهر الرجعية بغية اللحاق بركب الأمم التي شقّت طريقها بنجاح منذ عقود نحو الإنسانيّة الحقّة .

 

 

آخر الأخبار

الأكثر قراءة

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.