عائشة القلالي
الفرقة الوطنية للموسيقى التي تأسست في 1983 هي مكسب وطني لكلّ التونسيين يفترض أن تلعب دورا رئيسيا في دعم الإنتاج الموسيقي المحلي وتساهم في التعريف بالموسيقى التونسية وبالمؤلّفين والمؤدّين التونسيين، وخاصة وهذا الأهم في رأينا، أن تبحث عن المواهب الموسيقية الشابة وتقدّمها للجمهور المحلي والأجنبي، وهو من أنبل ما يمكن أن يقوم به هذا الهيكل الوطني المموّل كليّا من المال العمومي.
وقد عملت الفرقة على مر سنوات عديدة منذ تأسيسها على دعم الموسيقيين التونسيين فأنجبت أسماء كبيرة ساهموا في التعريف بالموسيقى التونسية وبتونس في كامل أنحاء العالم ونفّذت مشاريع موسيقية تونسية كبيرة مع أكبر الفنانين التونسيين وقدّمت لهؤلاء الفنانين فرصة ملامسة الجمهور لتكون انطلاقتهم الحقيقية نحو النجاح، هكذا مدّت الفرقة الوطنية للموسيقى يدها للمواهب الموسيقية التونسية وآمنت بها فكانت لهم المهد الأول الذي انطلقوا منه نحو تجارب موسيقية أخرى على الصعيد الوطني والعالمي.
إن من حق المواهب الموسيقية الشابة اليوم أيضا أن تجد في الفرقة الوطنية مهدا لها يحضنها ويؤطّرها لخوض غمار التجربة الموسيقية.
ومن واجب الفرقة الوطنية اليوم أن تكون فاعلا حقيقيا في المجال الموسيقي وليس مجرّد عارض لمادة موسيقية قديمة ومستهلكة.
ولا يمكن أن تكون الفرقة الوطنية عنصرا فاعلا إلا إذا تحوّلت إلى مختبر فني موسيقي يؤمن بضرورة تقديم مشاريع موسيقية جديدة تنبع من تجارب الموسيقيين الشباب الذين لا تتوفّر لهم فرص إنتاج مشاريعهم وتنفيذها نظرا لصعوبة عملية الإنتاج الموسيقي في تونس التي تعود إلى انعدام شركات الإنتاج والرعاية الفنية وعدم احترام قوانين الملكية الفنية إضافة إلى كل الشبهات التي تحوم حول لجان الدعم الفني في وزارة الإشراف.
إننا اليوم في حاجة ملحّة إلى رعاية التجارب الموسيقية الجديدة في ظلّ هذا الانفلات الذوقي الذي نعيشه والذي جاء نتيجة استسهال الممارسة الفنية والموسيقية، إذ أصبح بإمكان أي كان أن يمارس مهنة الموسيقى مستفيدا من عدم فاعلية الهياكل والتشريعات المنظمة للمهنة ومن تعدّد فضاءات الممارسة الحرة.
لذلك ننشد الأمل في الفرق الموسيقية الوطنية التي توفّر لها الدولة كل الإمكانيات اللازمة لتنفيذ برامج ومشاريع موسيقية تساهم في إنقاذ المستمع التونسي من التلوث السمعي الذي سقط مُرغَمًا فيه منذ سنوات.
والفرقة الموسيقية مطالبة اليوم بلعب هذا الدور وهي الأقدر على ذلك لأنها تتكوّن من طاقم موسيقي محترف وبمستوى تقني كفء وعال بدْءًا بمديرها محمد الأسود وصولا إلى العازفين والمجموعة الصوتية.
كما أنها مثلما ذكرنا تتمتّع بالدعم المادية من الدولة وهذا ما يحمّلها مسؤولية أكبر ويعرّضها للنقد والرقابة خلافا لغيرها من الفرق الخاصة.
وقدّمت الفرقة الوطنية مؤخّرا عرضا موسيقيا بنُسختَيْن: عرس الطبوع 1 وعرس الطبوع 2 ودعت الفرقة الفنان التونسي زياد غرسة لتنفيذ مشروعين موسيقيّيْن، الأوّل تونسي جزائري دُعي له الفنان الجزائري عباس الريغي والثاني تونسي سوري دُعيت له الفنانة لينا شماميان.
والعرضان في نصفَيْهما إعادة لقطع موسيقية آية ومغناة قديمة تراوحت بين المالوف والموشحات وإنتاجات موسيقيي الفترة الحديثة مثل الراحل محمد سعادة.
وفي النصفَيْن الآخريْن من العرضيْن قدّمت الفرقة إنتاجات موسيقية جديدة لكلّ من قائد الفرقة محمد الأسود والفنان زياد غرسة.
وهنا، وبغضّ النظر عن دسامة المادة الموسيقية وهو أمر مؤكّد، نتساءل عن جدوى إعادة تقديم أعمال موسيقية قديمة وقُدّمت عشرات بل مئات المرّات للجمهور، والحال أن الفرقة الوطنية للموسيقى لها كل الإمكانيات المادية والبشرية اللازمة لتقديم مشاريع جديدة يكتشف من خلالها الجمهور رؤى جمالية موسيقية جديدة وفكر موسيقي “طازج”.
لماذا إذا تفرض الفرقة على الجمهور مادة موسيقية مرّت عليها عشرات ومئات السنين وقدّمت مئات المرّات؟ ألا يكون من الأجدر أن نؤمن بالموسيقيين الشباب ونقدم للجمهور فرصة اكتشافهم؟
من ناحية أخرى، لماذا الإصرار على تمتيع فنانين أخذوا نصيبهم من الشهرة ومن الظهور أمام الجمهور، بفرص المشاركة مع الفرقة الوطنية للموسيقى، فزياد غرسة ليس في حاجة اليوم للفرقة الوطنية فهو ليس في بداية مسيرته كما أنه قادر على تنفيذ مشاريعه الموسيقية مع فرقته الخاصة. فلماذا نحرم جيل الموسيقيين الشباب من التعامل مع الفرقة الوطنية وهم الأحوج إلى ذلك؟
نأتي الآن إلى دعوة لينا شماميان، ففي نظرنا لم يوفّق مدير الفرقة أو صاحب المشروع في اختياره لها فهي لا تمثّل استثناءً موسيقيًّا فحين تعزم فرقة وطنية على دعوة فنان أجنبي للمشاركة في أحد عروضها لا بدّ أن يكون الفنان جديرا بذلك لاستثناءٍ ما في شخصيته الموسيقية أو في طريقة أدائه أو في فكره الموسيقي، ولكن لا نعتقد أن لينا شماميان تحمل أي صفة من هذه.
وليليا شاماميان ليست شخصية موسيقية مجدِّدة بل يمكن أن نعتبرها مؤدّية بإمكانيات صوتية بسيطة ولكن محترمة، وهي لا تتميّز حتى على مستوى الطابع الصوتي أو النمط الموسيقي الذي تؤدّيه ولا نبالغ إذا قلنا أنها واحدة من نسخ كثيرة متطابقة بهذا الصوت وهذا النمط. كما أن في تونس طاقات صوتية كبيرة مازالت تبحث عن فرصة اكتشافها أو فرص التعامل مع الفرقة الوطنية وهو حقّ مشروع لهذه الأصوات فلماذا نتجاهل الطاقات الصوتية التونسية والحال أننا نتحدّث عن فرقة “وطنية”؟
وبما أننا لا نعتبر لينا شماميان استثناءً كنا ننتظر أن تقدّم هذه الفنانة إضافة في البرنامج المؤدّى إذ بها تؤدّي جملة من الموشّحات التي سجّلتها وأدّتها مئات الفرق العربية، إضافة إلى بعض الأغاني البدوية التونسية، ولكن الجرأة كانت في أداء نوبة الخضراء للمؤلف التونسي خميّس الترنان. فبعد أن أدّت الفنانة الكبيرة سنيا مبارك هذه النوبة نلجأ اليوم إلى فنانة سورية بإمكانيات متواضعة لإعادة أداءها.
لسنا هنا مع تحنيط المادة الموسيقية ولكننا لا نفهم المغزى من دعوة فنانين أجانب في بداية مسيرتهم الموسيقية لإعادة تقديم مؤلفات موسيقية تونسية أدّاها الفنانون التونسيون قبل عشرات السنين.
ومن الضروري أن نتساءل عن الإضافة التي قدّمها الفنانان الأجنبيان المدعوّان للموسيقى التونسية؟ جميل أن تتعامل الفرق الموسيقية الوطنية مع الفنانين الأجانب ولكن الأجمل أن يكون التعامل بإنتاجات موسيقية رائدة وأن لا يقتصر على إعادات باهتة لإنتاج موسيقي سبق وأن قدّمه روّاد الموسيقيين التونسيين بطابعنا وهِنكنا التونسيّيْن.
والأروع من ذلك كله أن تكون الفرقة الوطنية “وطنيّة” وتؤمن بالمواهب الموسيقية التونسية وتعمل على تقديم المشاريع الجديدة بنفس جديد وفكر جديد وأن تكون مهدا لموسيقيّي الجيل الصاعد.
فتمثيل تونس دوليا والانفتاح على الآخر والتعامل الأجنبي لا يجب أن يكون على حساب الطاقات الوطنية، ولا باحتكار الفرقة الوطنية لفائدة فنانين قادرين على الانتاج والتنفيذ بفرقهم الخاصة.