في شارع الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة يتصدر المشهد شخصيتان عظيمتان في تاريخ هذه البلاد حيث يقف العلامة ابن خلدون منتصب القامة يجر خلفه الارث والتاريخ من باب بحر إلى باب سيدي قاسم الجليزي وما يحيط بهما فيما تنافسه على الضفة الأخرى قامة ثانية هي بورقيبة الذي يتقدم مشهدا آخر لتونس حيث المعمار الجديد والعولمة وغيرها من علامات المجتمع الحديث..
لبورقيبة وابن خلدون مقاربات تتقاطع في جوانب عديدة لكن في جوف كل منهما قلب يؤمن أن للدولة مكانة تسمو على الأفراد والجماعات والحسابات الضيقة وخاصة الرخيصة..
فابن خلدون يؤمن أن انعزال الفرد يجعله ضعيفا وبالتالي فإن مصيره في اجتماعيته التي تغلب طبيعته وهو يخلص فيما كتب في "المقدمة" إلى أنه "لا تتحقق وظيفة الدولة إلا متى حققت وظائف وأغراض تستفيد منها الجماعة البشرية"..
أما بورقيبة -وعلى نرجسيته وأخطائه العديدة- فإنه يسير في فكره إلى نفس المعنى ونهجه في مجانية التعليم والصحة واستثماره في البنية التحتية بعد الاستقلال يذهب في هذا النحو وهو ما ينكره إلا حاقد..
ولأن زمن القامات قد ولى صارت الدولة ضعيفة تهزها الصبيانيات وتحركها الأهواء ويسوسها من لا يستحق ليكون المآل الطبيعي في هذا الخضم أن يأتي أمير دولة قطر التي يكبرها أصغر أنديتنا الكروية سنا ليقول لرئيسنا الأسبق المنصف المرزوقي أنه جاء إلى تونس ليعلم "رئيس تونس" كيف يصافح وكيف يقف وغيرها من الاساءات الأخرى..
ومن المرزوقي جاء إلى الحكم من اتخذ من شعار "هيبة الدولة" جواز عبور إلى الرئاسة فلم نر في عهده منها سوى السقطة تلو الأخرى عدى زلات اللسان من قبيل "روح رهز" والاعتداءات على الإعلام كما حدث مؤخرا مع موفد قناة التاسعة دون الحديث عن التجاوزات لمستشاريه ومعاونيه الذين بحكمة لا يعلمها إلا الله..
لم نكن لنورد ما ذكرنا إلا بعد ما حدث اليوم في قصر قرطاج وعلى الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية من أخطاء فظيعة لم يكن لها أن تحدث في دولة تحترم نفسها وشعبها فمن ادعى ذات يوم أنه رئيس لكل التونسيين أقصى اليوم رئيس النادي الإفريقي سليم الرياحي وكرم ضيفه وضيف فريقه قبل أن يقدم مستشاروه على تجاهل اسم نادي باب الجديد في بلاغهم عن استقبال الناصر الخليفي رئيس "البي أس جي"..
حسابات سليم الرياحي السياسية لم تكن تعنينا في "حقائق أون لاين" ولن تكون كذلك و"الانترنت" تحفل بمقالات نقدناه فيها رياضة وسياسة وقراء موقعنا يعون ذلك أما من تلاعب به الوسواس فيكفيه تدوين اسمه في خانة البحث ليجد ما يشفي غليله ويكفينا مؤونة الرد عليه..
وبعيدا عن ذلك فإن ما حز في نفس الكثير من التونسيين وخاصة من أحباء النادي الإفريقي الذين صوتوا للباجي قايد السبسي عندما احتدم الصراع بينه وبين المنصف المرزوقي في الدور الثاني للرئاسيات هو الكيفية التي استل بها "رئيس التونسيين جميعا" ضيفهم من بينهم وكرمه في قصره في وقت تجاهلهم فيه وهم المضيفون..
أما الموقف "السخيف" حقا فقد صدر عن فريق الاتصال برئاسة الجمهورية الذين أكملوا خطأ "الرئيس" بتجاهلهم ذكر اسم النادي الإفريقي وكأن "البي أس جي" جاء للتدرب في تونس أو أنه سيلاقي فريقا من الكيان الصهيوني استحوا أن يذكروا اسمه..
الغريب أنه في الوقت الذي تغاضت فيه صفحة رئاسة الجمهورية عن ذكر اسم الإفريقي نجد أن وكالات الأنباء العالمية التي نقلت خبر استضافة الباجي قايد للناصر الخليفي قد أشارت إلى أن "البي أس جي" سيلاقي نادي باب الجديد اليوم في السابعة مساء بملعب رادس..
ولعل ما يكشف "غباء" و"ركاكة" بلاغ الرئاسة أنه ثمن قدوم "البي أس جي" إلى تونس من جهة فيما تجاهل الطرف الذي سيواجهه من جهة ثانية وهو ما يكشفه بوضوح الإقرار بقيمة هذه الزيارة كما تدل عليه الفقرة الثالثة من البلاغ والتي جاء فيها ما يلي "أن اختيار فريقه لتونس كوجهة رياضية لإجراء مقابلة ودية، ينبع من تقديره لبلادنا ولما حققته من إنجازات في مختلف المجالات رغم صعوبة الظرف الإقليمي والدولي، مشيرا إلى أهمية الاستثمار في المجال الرياضي وتنمية علاقات التعاون في هذا القطاع."
عود على بدء, فإن ما جعلنا نبني المطلع على شخصيتين بارزتين في تاريخ تونس هو الوضع الذي تردت إليه البلاد اليوم حيث رغم ما يخيل إلينا أن ما نعيشه هو الديمقراطية إلا أن التكلس الذي يصيب هياكل الدولة ومؤسساتها وعقول قيادتها هو الإشكال الذي سيظل يلاحقنا حتى نتمكن فعليا من طي صفحة الاستبداد ونؤسس لتونس جديدة..
الرياحي كرئيس حزب اختار أن يكون في الحكم قبل أن يقرر الانضمام إلى المعارضة وهو حق مشروع يكفله الدستور والمواثيق والقوانين ومن الطبيعي أن يمارس حقه في النقد لكن أن يتم الرد على مواقفه وأرائه بمحاربة ناد في حجم وعراقة النادي الإفريقي فهو ما لا يمكن أن يرتضيه "شعبه" وجمهوره واسع الانتشار وعلى الرئيس وحاشيته أن يفهموا ذلك جيدا..
الغضب استبد بجمهور الأحمر والأبيض في الأيام الأخيرة خصوصا مع ممارسات وزيرة الشباب والرياضة وما حصل يوم أمس في الداخلية حول الدعوات الخاصة بالمنصتين الرئاسية والشرفية وها أن مؤشراته تتعاظم بعد مهزلة إدارة الاتصال برئاسة الجمهورية التي عليها أن تتحرك لتصحح سقطتها فالاعتذار والتصويب من شيم الكبار..
وبالمحصلة فإن ما حدث اليوم مهزلة وفضيحة في حق الدولة قبل النادي الإفريقي ورئيسه وبالتالي صار من الضروري تعديل الرمي وإعادة الهيبة الحقيقة للدولة بعيدا عن الشعارات الفضفاضة فالدولة كما يعرفها أرسطو هي "الائتلاف الأسمى" وبالتالي فلا يمكن الحديث عن الإقصاء إلا من زاوية الغباء..