بعد الحرب البونيقيّة الثانية 219-201 ق.م كانت الأمّهات في روما يرددن على مسامع أطفالهنّ كي يخلدوا للنوم العبارة اللّاتنيّة الشهيرة "هانيبال أد بورتس" Hannibal ad portas أي "حنّبعل على الأبواب"، لقد ورث أطفال روما الخوف من القائد القرطاجنّي "حنّبعل" عن أمّهاتهم وأبائهم كما ورثوا عنهم الجينات وأمجاد روما وهزائمها.
فمن هوّ هذا القائد العسكري الذي أصبح مادّة للأساطير وشغل الباحثين والمؤرّخين والقادة العسكريين على مرّ العصور؟
إنّه "هانيبال" أو "حنّبعل"Hannibal، إسمه يعني محبوب الاله في اللغة البونيقية، ولد سنة 247 ق.م بمدينة قرطاج (قَرْتْ حَدَشْتْ)، والده "أميلكار برقا" Hamilcar Barca قائد القرطاجيين خلال الحرب البونيقيّة الأولى 264-241 ق.م والّتي إنتهت بهزيمة أسطول قرطاج وفقدان جزيرة صقليّة وزيادة النفوذ الروماني في حوض البحر الأبيض المتوسّط، الّذي أطلق عليه الرومان منذ ذلك الحين إسم "ماره نسترُم" أي "بحرنا".
رافق حنّبعل وهو لا يزال طفلا والده "أميلكار برقا" وصهريه "صدر بعل العادل" Hasdrubal le Beau والامير النوميدي "نارافاس" Naravas في حملة الجيش القرطاجي على شبه الجزيرة الإيبيريّة (إسبانيا) سنة 236 ق.م. يروي المؤرّخ الروماني "تيتوس ليفيوس" 59 ق.م -17 ميلادي Titus Livius أنّ "أميلكار" إشترط على إبنه "حنّبعل" قبل أن يصطحبه أداء قسم الكراهيّة لروما أمام العرش المهيب للاله "بعل حامون" Ba'al Hammon كبير آلهة قرطاج.
بعد أن أخمد إنتفاضة داخليّة كبيرة عُرفت بحرب المرتزقة وبسط نفوذ قرطاج على جزء كبير من شبه الجزيرة الإيبيريّة أصبح "أميلكار برقا" بطلا شعبيّا عند القرطاجيين وأكسب عائلة "برقا"،وتعني الصاعقة باللغة البونيقيّة، مكانة خاصّة في قلوبهم. القرطاجيون أرادوا محو أثار هزيمة أسطولهم أمام أسطول روما الّذي أنشئ بعد أن فكّك الرّومان شفرة صناعة السفن الحربيّة عندما إستولوا قبل سنوات على سفينة قرطاجيّة إنحرفت عن مسارها في البحر لتصل مقابل سواحلهم.
إثر وفاة القائد القرطاجي "أميلكار برقة" سنة 228 ق.م في إحدى المعارك خلفه صهره "صدر بعل العادل" في قيادة الجيش وعيّن إبنه "حنّبعل برقا" مساعدا له وهو لم يبلغ بعد ربيعه العشرين وبسرعة فائقة أظهر القائد الشاب "حنّبعل" مهارات عسكريّة كبيرة وحنكة سياسيّة عالية ممّا جلب له إحترام وتقدير جنوده الّذين لم يتوانوا لحظة واحدة في إختياره قائدا لهم بعد إغتيال "صدر بعل العادل" ،زوج شقيقته "صلامبو"، سنة 221 ق.م، وأقرّت حكومة قرطاج فيما بعد هذا الإختيار رغم معارضة خصومه من الأرستقراطيين القرطاجيين، قام حنّبعل بتدعيم نفوذ قرطاج في شبه الجزيرة الإيبيريّة وتوطيد علاقته مع القبائل المحليّة من خلال زواجه بالأميرة الإيبيريّة "إميليس" Imilice ولم ينس العهد الّذي قطعه على نفسه لوالده أمام الاله "بعل حامون" وهو أن لا يكون أبدا صديقا لروما الّتي أهانت قرطاج بعد هزيمتها في الحرب البونيقيّة الأولى وفرضت عليها معاهدة "قاتالوس".
خطّط "حنّبعل" لإستدراج روما لمواجهة عسكريّة فضرب حصارا خانقا على حليفتها مدينة "ساغنتوم"Saguntum في سنة 219 ق.م مستغلاّ تردّد القادة الرومان في نجدتها، ويذكر المؤرّخين الجملة الشهيرة لمبعوث "ساغنتوم" لروما " عندما كنّا نتجادل في روما كانت ساغنتوم تسقط" Dum Romae Consulitur, Saguntum expungnatur وبالفعل سقطت "ساغنتوم" بعد ثمانية أشهر من حصار الجيش القرطاجي.كان "حنّبعل" يدرك أنّ الحرب مع روما قادمة لا ريب فيها فالمتوسّط لا يحتمل أكثر من سيّد واحد والسيطرة على مدينة "ساغونتوم" كانت شرارة بداية الحرب البونيقيّة الثانية بين قرطاج وروما، يسمّيها بعض المؤرّخين "بحرب حنّبعل" لأنّ "حنّبعل برقا" هوّ من خطّط لها وهو قائدها وهو كذلك من وضع أوزارها وكأنّ الرجل ولد فقط ليخوض هذه الحرب وليكون الكابوس المزعج لروما طيلة ثمانية عشر عاما.
فما هيّ أطوار الحرب البونيقيّة الثانية؟
قام "حنّبعل" بمعيّة هيئة أركان جيشه، المتكوّنة من شقيقيه "ماجو وصدر بعل برقا" وقائد الفرسان النوميدي "ماهر بعل" Maharbal والطبيب المصري "سينهالوس" والإسبرطي "سوسيليوس" معلّم حنّبعل في اللغة اليونانيّة والمنجّم الهندي "حنا بوح"، بتجهيز جيش جرّار قدّره المؤرّخ اليوناني Polybe"بوليبيوس" 203 ق.م- 120ق.م ب حوالي 90000 من الجنود المشاة و 12000 فارسا و37 فيلا حربيّا. كان "حنّبعل" مدركا لتفوّق أسطول روما البحري على أسطول قرطاج لذلك فلا سبيل إلى التفكير في مهاجمتها بحرا بل كان عليه أنّ يعدّ خطّة عسكريّة لغزوها برّا. خطّة القائد القرطاجي لها وجهان مثل "جانوس" Janus حارس أبواب السماء، وجه للحكمة ووجها للجنون. الحكمة أنّه سوف ينقل المعركة إلى أرض العدوّ، حيث كان يردّد على مسامع قادة جيشه " في حالة وصولنا لنهر "البو" قبل فوات الأوان، نستطيع أن نمسك بتلابيب جيوش الغزو داخل روما نفسها، فلا تصبح مدينة قرطاج ميدانا للحرب، وحينئذ تقع تكاليف الحرب ولأوّل مرّة على الرومان وعلى بلادهم فيكتوون بآلامها، ويحرقون بنارها، فالسرعة ثمّ السرعة"، أمّا وجه الجنون في خطّته ،وهو ما لم ينتظره منه الرومان، فهو مسيرته الكبرى من قرطجانّة ( قرطاج الجديدة) إلى سهل "البو" بشمال إيطاليا على رأس جيش بعشرات الألاف من الجنود وألاف الفرسان وعشرات الفيلة الحربيّة ، قدّر المؤرّخون طول موكبه العسكري بحوالي خمسين ميلا.
قاد "حنّبعل" جيشا متعدّد الأعراق واللّغات والثقافات والخبرات العسكريّة بحكمة وشجاعة نادرتين، الجزء الأساسي من جيشه كان من الجنود المرتزقة ذوي القدرات القتاليّة العالية، المشاة كانوا من شبه الجزيرة الإيبيريّة يستخدمون بمهارة السيف المقوّس المعروف ب"الفلكاتا" Valcata، أمّا الفرسان فكانوا من النومديين يقودهم الفارس النوميدي الحكيم "ماهر بعل" ودعّم حنّبعل جيشه برماة الحجارة والمنجنيق الّذين جلبهم خصّيصا من جزر "البليار"Îles Baléares، أمّا مفاجأة حنّبعل العسكريّة الّتي أثارت ضجةّ كبيرة وأسالت حبرا كثيرا فهي الفيلة الحربيّة الّتي لم تعبر به جبال الألب فحسب بل عبرت به أيضا من التاريخ إلى الأسطورة. الجيش القرطاجي سوف يقطع مسافة تقدّر بحوالي الألف ميل، لا شيء سوف يوقفه في طريقه إلى روما، لا جبال البيريني Pyrénées ولا نهر "الرّون" Rhône ولا جبال الآلب Alpes الّتي كانت تعتبر سور روما الّذي يحميها من الغزاة ولا كمائن القبائل الغاليّة المتوحّشة ولا ثلوج الشتاء القارس ولا فيالق الجيش الروماني الّتى حاولت عبثا صدّه.
إنّ عبور "حنّبعل" بجيشه لجبال الألب الّتي ترتفع في بعض نقاطها إلى حدود 4900 متر كان عبورا ميثولوجيّا، أقرب إلى فعل أنصاف الآلهة منه إلى فعل البشر، ورغم خسارته لألاف الجنود في ملحمة العبور تمكّن الجيش القرطاجي من تحقيق انتصارات عسكرّية باهرة على أكبر جيش على وجه الأرض وقتئذ في مدّة لا تتجاوز الثمانية عشر شهرا أوّلها كانت في معركة نهر "تسينو" Le Tessin الّتي جُرح فيها القنصل الروماني قائد الجيش "ببليوس" Publius وكان فيها الدور الحاسم للفرسان النوميديين بقيادة "ماهر بعل" وثانيها معركة نهر "تريبيا" La Trébie الّتي إختار فيها "حنّبعل" أرض المعركة عملا بحكمة والده "أميلكار" القائلة "دع الأرض تقاتل عنك" وكان هذا النهر بأوحاله ومياهه الباردة الفخّ الّذي وقع فيه الجيش الروماني بقيادة القنصل الجديد "تيبيريوس سامبرونيوس" Tiberius Sempronius، المؤرّخ "تيتوس ليفيوس" قدّر خسائر روما في هذه المعركة بحوالي 20000 جنديّا أمّا خسائر القرطاجيين فلم تتجاوز عشر هذا العدد. جلبت الإنتصارات العسكريّة المتتالية للجيش القرطاجي حلفاء جددا من الشعوب والقبائل والمدن الّتي كانت ترزح تحت نير الهيمنة الرومانيّة. حنّبعل لم يكن قائدا عسكريّا ميدانيّا فحسب بل كان سياسيّا وديبلوماسيّا ماهرا، رسله كانوا يردّدون على مسامع زعماء المدن والقبائل الإيطاليّة مقولته الشهيرة " جئت هنا ليس لمحاربة الإيطاليين بل لمحاربة روما بإسم الإيطاليين" فكان يطلق سراح كلّ الجنود الَّذِينَ يأسرهم في المعارك من غير الرّومان ليصبح في عيون قبائلهم وشعوبهم محرّرا وليس غازيا وحليفا ضدّ بطش روما فإنضمّ إلى جيشه ألاف المقاتلين والفرسان الأشدّاء من "الغاليين" Les Gaulois وعدّة مدن أخرى في شمال إيطاليا.
لن يتأخّر الردّ الروماني على هذا الزحف القرطاجي فقام القنصلان الجديدان "جايوس فلامينيوس نيبوس" Gaius Flaminius Nepos و "جنايوس سيرفيليوس جيمينوس" Gnaeus Servilius Geminus بقيادة جيشين كبيرين لمنع وصول الجيش القرطاجي إلى روما ولكنّ " حنّبعل" نصب كمينا محكما لجيش القنصل " جايوس فلامينوس نيبوس" في بحيرة "ترازايمين" Le Lac Trasimène ذهب ضحيته حسب المؤرّخ "بوليبوس" 15000 جندي روماني وعلى رأسهم قائدهم القنصل،"فلامينوس"، سوف يحفظ التاريخ كلمات القنصل الروماني "بومبونيوس ماثو" Pomponius Matho أمام الجماهير المذعورة في ساحة الفوروم بروما " لقد قهر العدو جيوش روما في موقعة عظيمة مات فيها أحد القنصلين".
أثارت الهزائم المتتالية للجيش الروماني أمام "حنّبعل" زلزالا سياسيا في روما حيث قرّر مجلس الشيوخ تعليق العمل بالجمهوريّة والقيادة المزدوجة للقنصلين وتعيين "فابيوس مكسيموس" Fabius Maximus دكتاتورا له صلاحيات سياسية وعسكريّة مطلقة لمدّة ستّة أشهر. إعتبر الرومان أنٌ هزائمهم العسكريّة هي نتيجة غضب آلهتهم فقدّموا ثلاثمائة ثور قربانا لاله السماء والبرق "جوبيتير" Jupiter وتعهّدوا بتقديم كلّ محاصيل تلك السنة قرابين لاله الحرب "مارس" Mars.
كان الدكتاتور الروماني الجديد "فابيوس" على يقين بأنّ هزيمة "حنّبعل" تكاد تكون أمرا مستحيلا فقرّر عدم مواجهته عسكريّا بصورة مباشرة ووضع خطّة حرب إستنزاف طويلة لإنهاك الجيش القرطاجي، أثارت خطّة "فابيوس"،الّتي تعرف اليوم في القاموس العسكري بإستراتجية "فابيان" Fabien strategy، سخط الرومان تجاهه حيث نعت بالجبان والمؤجّل Conctator لأنّه كان في كلّ مرّة يؤجّل المواجهة المصيريّة مع "حنّبعل".
سنة 216 ق.م قرّر القنصلان الجديدان في روما " جايوس ترينتيوس فارو" Caius Terentius Varro و " لوسيوس أميليوس بولوس" Lucius Amelius Paullus وضع حدّ لخطّة "فابيوس" الدفاعيّة وحشد جيش كبير لمواجهة عسكريّة حاسمة ضدّ الجيش القرطاجي الّذي تمكّن من السيطرة على مخازن حبوب الجيش الروماني بمنطقة " كاناي" Cannes في الجنوب الإيطالي،المؤرّخ اليوناني "بوليبيوس" تحدّث عن 80000 من المشاة و 6000 فارس في حين لم يكن تحت إمرة القائد القرطاجنّي حنّبعل سوى نصف هذا العدد من الجنود.
القنصل الروماني "جايوس ترينتيوس فارو" الّذي كان متهوّرا وقليل الخبرة العسكريّة سوف يختار مواجهة "حنّبعل" على أرض مفتوحة كي لا يقع في كمائن الجيش القرطاجي كما وقعت جيوش روما في المعارك السابقة.
يوم الثاني من أغسطس / أوت سنة 216 ق.م وقرب نهر "أوفيديوس" سوف تدور معركة "كاناي العظمى" الّتي لازالت إلى يومنا هذا تدرّس في المدارس العسكريّة، حيث تمكّن الجيش القرطاجنّي بقيادة حنّبعل من سحق الجيش الروماني بإستعمال حيلة الإستدراج والتطويق. ذكر "بوليبيوس"أنّ خسائر الجيش الروماني بلغت حوالي 70000 قتيل في حين قدّرها "تيتوس ليفيوس" بحوالي 50000 قتيل، وفي المقابل لم تتجاوز خسائر الجيش القرطاجي 6000 قتيل. ميدان معركة كاناي لازال يسمّى إلى اليوم بميدان الدماء Campo de Sanguin.
إنهزمت روما ولكنّ قادتها رفضوا الإعتراف بالهزيمة وإمضاء معاهدة صلح مع "حنّبعل" كما جرت به أعراف و نواميس الحروب في ذلك العصر. "ماهر بعل" بعد إنتصار كاناي إعتبر أنّ الهجوم على روما هوّ الحلّ الأنسب لإجبارها على الإستسلام نهائيّا ولكنّ للأسف "حنّبعل" لم يشاطره الرأي فردّد مقولته الشهيرة "حنّبعل لقد حبتك الآلهة بنعم كثيرة، فأنت تعرف كيف تحرز النصر، ولكنّك لا تعرف كيف تستخدمه"، وبالفعل أنصف التاريخ القائد النوميدي، وأعادت روما بناء جيشها وتجهيزه في وقت وجيز.
بعث "حنّبعل" بشقيقه الأصغر "ماغون" لطلب الإمدادات العسكريّة من قرطاج لمواصلة الحرب على روما ولكن مجلس الشيوخ رفض طلبه وكلّف "ماغون" بالإلتحاق بقيادة الجيش القرطاجي في شبه الجزيرة الإبيرية. كانت طبقة التجار الأوليغارشيين تنظر بعين الريبة لتوسّع نفوذ عائلة "برقا" ولتزايد شعبيّة "حنّبعل" لدى القرطاجيين بعد أن بلغت إلى مسامعهم أخبار إنتصاراته على جيوش روما، فعمدت إلى عرقلة كلّ الجهود لدعمه عسكريّا وردّد خصومه أنّه "إذا كان حنّبعل ينتصر فهو لا يحتاج إلى المساعدة، وإذا كان لا ينتصر فهو لا يستحقّ المساعدة". سنة 207 ق.م تمكّن شقيقه "صدر بعل"من عبور جبال الآلب على رأس جيش كبير للإلتحاق به ولكنّه وقع في كمين نصبه له الجيش الروماني وقُتل في معركة " ميتوريوس" Métaure، ثمّ قُطع رأسه ووُضع في كيس ورُمي به أمام معسكر شقيقه حنّبعل وكان لهذه الحادثة أثر كبير على نفسيّة القائد القرطاجي، الّذي بقي طيلة سبع سنوات محاصرا في إيطاليا دون أن يصله أي دعم عسكري من قرطاج فتقلّص جيشه عددا وعدّة.
إستغلّ القائد العسكري الروماني الشاب " بابليوس كورنيوس سكيبيو"، الّذي فقد والده وعمّه في الحرب ضدّ القرطاجيين، هذا الإرتباك السياسي والعسكري القرطاجي ليقنع قادة روما أنّه لهزم "حنّبعل" وإجباره على الإنسحاب لا بدّ من تطبيق نفس خطّته العسكريّة وذلك بنقل المعركة لأرض قرطاج ، فقام الجيش الروماني تحت قيادته في مرحلة أولى بغزو شبه الجزيرة الإبيريّة وتدمير قرطاجنّة بالكامل ثمّ توجّه سنة 204 ق.م من جزيرة صقليّة على رأس جيش ب 35000 جنديّ لمحاصرة قرطاج وإجبار "حنّبعل" على العودة لحمايتها.
تمكّنت روما من التحالف مع القائد النوميدي "ماسينيسا" Massinissa الّذي كان في السابق حليفا لقرطاج ولكنّ مساندة هذه الأخيرة لخصمه النوميدي "سيفاكس" Syphax دفعته للتحالف مع القائد الروماني " سكيبيو" وأمام تتالي هزائم الجيش القرطاجي بقيادة " صدر بعل جيسكو" Hasdrubal Giscot إضطرّ مجلس الشيوخ إلى دعوة " حنّبعل" للعودة من إيطاليا لإنقاذ قرطاج من الغزو الروماني/ النوميدي فكانت معركة "زامة"Zama الشهيرة الّتي سوف تحدّد مصير حنّبعل وقرطاج معا.
سنة 202 ق.م دارت المعركة الحاسمة في الحرب البونيقيّة الثانية بين الجيش القرطاجي بقيادة "حنّبعل" الّذي قدّره المؤرّخ "بوليبيوس" ب 40000 من الجنود المشاة و 4000 من الفرسان و 80 فيلا حربيا والجيش الروماني وحليفه النوميدي "ماسينيسا" والّذي قدّره ب 29000 من الجنود المشاة و6100 فارس، أساسا من النوميديين . "سكيبيو" الّذي أصبح منذ ذلك الحين يلقّب بسكيبيو الإفريقي Scipion l'Africain ،نسبة إلى حملته العسكريّة على إفريقيّة، يعرف جيّدا القائد القرطاجي حنّبعل ،فهو من القادة العسكريين الرومان القلائل الّذين نجوا من معركة "كاناي" الّتي دارت منذ أربعة عشر عاما في جنوب إيطاليا، لذلك رسم خطّة للحدّ من خطورة الفيلة الحربيّة الّتي كانت في مقدّمة الجيش القرطاجي، حيث أمر جنوده المشاة بإحداث صخب بالأبواق وفتح ممرّات بينهم لتمرّ منها الفيلة الهائجة دون أن تهاجمهم، بل إنّ بعضها إستدار لمهاجمة الجنود القرطاجيين ممّا أربك خطّة حنّبعل العسكريّة منذ البداية، ثمٌ فيما بعد كان لفرسان ماسينيسا النوميدي دور حاسم في تطويق الجيش القرطاجي وإلحاق أوّل هزيمة بقائده "حنّبعل".
هزيمة "زامة" كان من نتائجها خسارة قرطاج لكلّ أراضيها بشبه الجزيرة الإيبيرية والتخلّي عن أسطولها البحري وإطلاق سراح كل الأسرى الرومان و التعهّد بعدم إعلان الحرب إلاّ بموافقة روما ومنح كلّ الأراضي النوميدية لماسينيسا.
أصبح "حنّبعل" حاكما لقرطاج سنة 196ق.م لمدّة عام واحد وأراد القيام بإصلاحات سياسيّة وإقتصاديّة للنهوض بها بعد الحرب ولكنّه إصطدم بطبقة التجار الأوليغارشيين بقيادة "هانون الأكبر" Hannon le Grand الّذي وشى به للرومان ممّا إضطرّه للفرار إلى امبراطور سوريّة "أنطوخيوس الثالث" خصم روما، ثمّ إلى مملكة "أرمينيا" حيث وضع حدّا لحياته بتناول السمّ بعد أن تفطّن أنّه تعرّض للخيانة وسوف يسلّم إلى روما.
"حنّبعل برقا" من القادة العسكريين القلائل الّذين غيّروا مجرى التاريخ، ينام اليوم في أرض غير أرضه و في وطن غير وطنه، العالم بأسره ينحني أمام ما أنجزه وأحفاده في تونس للأسف يجهلونه، "نابليون بونابرت" Napoléon Bonaparte كان يعتبره من أعظم القادة العسكريين في تاريخ الإنسانيّة، فكيف نجح الفرنسيون في صنع أيقونة "بونابرت" وفشلنا نحن في صنع أيقونة "حنّبعل"؟، الأدب الفرنسي حوّل الهزيمة العسكريّة لبونابرت في معركة "واترلو" Waterloo الشهيرة إلى إنتصار ثقافي لفرنسا، لماذا لم تكتب أقلامنا حول ملحمة قرطاج رواية في روعة رواية " صلامبو" Salammbô لغوستاف فلوبير Gustave Flaubert ؟ لماذا لم ترسم ريشة أحد رسّامينا لوحة في جمال لوحة الرسّام الإنجليزي "وليام ترنر" William Turner الّتي رسمها سنة 1812 وأطلق عليها إسم "عاصفة الثلج أو حنّبعل يعبر الآلب" Tempête de neige ou Hannibal traversant les Alpes أو لوحة الرسّام الإسباني الشهير "فرانسيسكو دي جويا" Francisco de Goya الّتي أبدعتها ريشته سنة 1770 وسمّاها " حنّبعل المنتصر يتأمّل للمرّة الأولى إيطاليا من جبال الآلب"؟ لوحة "دي جويا" تصوّر حنّبعل المنتصر على جبال الآلب قبل أن ينتصر على جيش روما.
الرومان بعد الحرب البونيقيّة الثالثة 149- 146 ق.م دمّروا مدينة قرطاج ورشّوا أرضها بالملح كي لا تنبت زرعا والتونسيون للأسف الشديد على مرّ العصور بدورهم رشّوا ذاكرتهم الجماعيّة بملح النسيان وكأنّهم يريدون محو هذا الإرث الفنيقي القرطاجي العظيم، أخذوا حجارة قرطاج ليشيّدوا بها مدينتهم العتيقة ولكنّهم تركوا روح قرطاج خارج أسوار هذه المدينة.
لنصالح أطفالنا مع تاريخهم ولنقل لهم أنّ "هانيبال أد بورتس" أي حنّبعل على الأبواب، ليس ليخلدوا للنوم خوفا كأطفال روما بل ليستقبلوه بطلا ونبراسا لإنتصارات قادمة.
كم نحتاج إلى روحك أيّها القائد العظيم حنّبعل.