المساجد الأسيرة لدى المتطرفين: عنف السلفيين!

يعتبر تأهيل أئمةٍ ذوي مصداقية والنهوض بالمؤسسات الدينية الثقات، خطوة مهمة في المعركة ضد التطرف الديني، لكنها ليست كافية،إذ "بإمكان علماء الدين الجدّيين وذوي المصداقية دحض التأويلات العنفية للإسلام، إنما لسوء الحظ، لا يمكنهم معالجة جذور التطرّف".

من هذا المنطلق سأعود  للحديث عن فترة مهمة في مرحلة الانتقال الديمقراطي التي تعرفها تونس، في فترة اتسمت بالتشنج و كشفت عن تعطش كبير لدى الشباب،على وجه الخصوص، للديّن، بما جعله يلجأ إلى الفضائيات المشرقية و يسهل استقطابه من كل الاطراف و لكن المهم في كل ذلك أنها  أبرزت الوجه الخفي للتطرّف الكامن في تونس بشكل أو بآخر.

مرحلة صعبة تقاسمها التونسيون حين تمت السيطرة على 149 مسجدا (وربما أكثر) من جملة 5050 مسجدا تونسيا من قبل عدد من المتطرفين بهدف إعادة صياغة الخطاب الديني المعتدل و المتسامح نوعا ما و الترويج لخطاب "جديد" يؤسس للعنف التكفيري و يدعو للكراهية و الإقصاء و التفرقة بين أفراد الشعب الواحد.

بدلا من الحديث عن سبل تطوير العامل الديني و النهوض بالمؤسسات الدينية لتكون المساجد منطلقا لبناء جيل واع متسامح قابل للتعايش مع الآخر ، خرج عدد من المتطرفين يكفّرون الناس و يعلنون عن أنفسهم "مصلحين جددا " ، يهددون بتطبيق الشريعة وربما تغيير النمط المجتمعي السائد.

العوامل المؤدية إلى العنف في المساجد

عوامل كثيرة ساهمت في بروز تلك الظاهرة و أدت إلى بروزها على السطح و جعلها قضية على درجة كبيرة من الأهمية شغلت الرأي العام و الإعلام و مكونات المجتمع المدني و الأئمة المعتدلن المنتسب بعضهم  إلى جامع الزيتونة(الزيتونيون).

أولا لا يجب ان نترك جانبا كيف ساهمت الحكومات السابقة في تفكيك المؤسسة الدينية و القضاء على مصدر تمويل النشاط الديني ، حيث قامت دولة الاستقلال ،كما هو معروف باعتماد ما سُمٍّي" بسياسة تجفيف المنابع"فما قامت به من  تفكيك للمؤسسة الدينية التقليدية و تعويضها بمؤسسات جديدة لم يكن سببا كافيا بقدرما كان  حل الأحباس و تحويل المساجد إلى ملك عام للدولة و هو أمر محمود من الناحية القانونية و لكن من الناحية السياسية و بصفتي باحثة في العلوم السياسية أشير إلى انّ خيارنوعية العلاقة بين الدين و الدولة ، وضع الدين تحت سلطة الدولة التي أصبحت راعية للمؤسسات الدينية و منفذة لسياستها على شكل كانت فيه تحت سيطرتها الدائمة بما شكل وازعا "لحرمان ، إن شئنا القول، المتعطشين للدين من الدخول فيه و معرفته عن قرب .

ما حدث كان بمثابة التعبير عن "فيض الكأس" خصوصا بعد التشبع بخطابات الفضائيات الوهابية ،  من ناحية و ضعف الدولة أمام خيار المجتمع أو جزء منه، من ناحية ثانية و هذا الضعف لم يقتصر على المجال الديني فحسب بل شمل العديد من المجالات في فترة حكم الترويكا التي بدت ضعيفة على مستوى إحكام القبضة عليها  و تحول الصراع فجأة من صراع إيديولوجي بين فئات تحكمها إيديولوجيات مختلفة  و كلها ينتمي إلى الإسلام، إلى  صراع سياسي فكري بين السلفيين بمختلف تفرعاتهم و الإسلاميين (أنصارحركة النهضة و حزب التحرير) و الأئمة المعينين قبل 14 جانفي .

الإشكال الحقيقي يكمن في انّه بعد كل ها المخاض ، لا يمكن ان نجزم أنّه تم تحرير المساجد و ربما تحرير العقول هو ما يدعونا للحيرة ، و التساؤل كيف ظهرت السلفية الجهادية في تونس و كيف انتشرت في الجبال و اغتالت و نصبت الكمائن و دبرت و روّعت و خططت و خوّفت (كل هذه الأسئلة لا يمكن الإجابة عليها في هذا الإطار ) و لكنها تصب في اتجاه واحد و هو انّ ذلك العنف التفكيري الرمزي نوعا ما تحول ّإلى عنف مادي ملموس .

و هنا يحز في نفسي ان أذكر بالدعوة التي أطلقها أحد السلفيين أمام جامع بولاية (محافظة) جرجيس،قائلا "ائتوني برأس نجيب الشابي و شكري بلعيد و .. " ثم بعد تلك الدعوة ، تمّ اغتيال الشهيد شكري بلعيد، طبعا  بعد أن ثبتت عليه "تهمة الكفر " و أقيم عليه حد الردّة باعتباره كما زعموا "تبوّل على القرآن".

عوامل مرتبطة بالترويكا

بعد وصول الإسلام السياسي إلى الحكم و تفعيل قرار العفو التشريعي الذي تمتع به طيف كبير من المساجين أغلبهم من المتهمين في احداث سليمان و من أصحاب السوابق و من المصنفين ضمن "الإخوانجية " (وهي صفة تنسب للمتشددين دينيا ) ، و على إثر الانفلاتات التي شهدتها بعض الفضائيات و المؤسسات الإعلامية منها مثلا حادثة رفع الكفن في وجه وزير الداخلية على قناة التونسية مباشرة في برنامج التاسعة ، و أمام تزايد عدد الجمعيات القرآنية (التي ثبت تورط أغلبها فيما بعد في تمويل الإرهابيين و ظهور ما يسمى بمكونات المجتمع المدني "الموازي" و جمعيات خيرية و منظمات تدافع عن حقوق الإرهابيين و حقوق المتطرفين،انتشر عدد من السلفيين أصحاب الخطابات الدينية الداعية إلى العنف و إقامة حد السيف و إرغام "من لم يهتدي على الهدى .. " !

هذا إضافة إلى الحلقات التي كانت تقام في المساجد و تعقد دون رقيب او حسيب و يشرف عليها العالِمُ  والجاهلُ و الأميّ . كما ذكر تقرير المرصد الوطني إيلاف، أنّ 8 بالمائة من الجمعيات كانت تتخذ من المساجد مقراّ لها ، و طبعا ، أغلبها تلك التي ثبت تورطها في تلقي تمويلات خارجية و تمويل الإرهاب .

أضف إلى ذلك التسميات الغريبة التي برزت من قبيل "رابطة شباب المساجد" و هي تسميات تحيل على" شباب الصحوة " و "الشباب الصومالي" و غيرها من التقليعات المختلفة .

 و في اعتقادي كان لوزير الشؤون الدينية نور الدين الخادمي الذي لا يخفي ميولاته السلفية في تلك الفترة، دور كبير في اشتداد الأزمة لماّ طرد الكفاءات المسجدية بتعلة محاربة "أزلام النظام السابق" و تعويضهم بآخرين لا قدرة و لا مستوى تعليميا و لا ثقافة دينية لدى الكثيرين منهم . ( كان ذلك تحت إشراف لجنة الرصد و المتابعة ).

نشير إلى أنّ  الخادمي كان قد اعترف خلال افتتاحه ندوة علمية بعنوان  «المساجد في تونس بعد الثورة: الواقع والآفاق» ، بأن المساجد التي استولى السلفيون على منابرها تشهد "مشاكل خطيرة" في إشارة إلى إنزال الأئمة من المنابر بالقوة وإجبار مصلين على تغيير المساجد التي تعودوا على أداء الصلاة فيها ..

يذكر أن أئمة المساجد و الإطارات الدينية دخلوا يوم 8 أوت 2012 في إضراب عن العمل و ذلك للمطالبة بإرجاع المطرودين من حاملي صفتهم. و كان ذلك الإضراب الأول في تاريخ هذا القطاع في تونس.

 إزاء كل هذه المعطيات هناك سؤالان يتبادران إلى الذهن :

هل كلّ ما يتوجب علينا فعله اليوم، هو  أن نكفي المساجد "شر التسييس" أي أن نقوم بتحييدها،فقط؟

ثم كيف يمكننا تطوير الدور الذي تضطلع به دور العبادة  بشكل يجعل منها فاعلا أساسيا في المرحلة الانتقالية التي تعيشها بلادنا ؟

"يجب أن لا تصبح الإمامة بالغلبة و تحت سيطرة الأقوى"

ما حدث أن جمعا  كبيرا من المتشددين قاموا بتكوين قاعدة شعبية و عملوا على استقطاب الشباب سواء من خلال الخيمات الدعوية التي كانت تنصب يوميا (خلال فترة حكم الترويكا) و على الملأ و في كل مكان حتى داخل الجامعات  أو من خلال "خطب الجمعة " و الاجتماعات داخل المساجد.

و من الخطير جدا أنه من بين المساجد التي تمت السيطرة عليها جامع الزيتونة الذي يعد أول جامعة  في العالم الاسلامي و يتكون من جامعة و جامع  – مر ببنائه حسان ابن النعمان – بالإضافة إلى جوامع في أرياف القيروان و حي التضامن و الكرم و المرسى بالاضافة إلى مساجد كبرى في العديد من الجهات.

ربما مرّ الوقت و نظن أن المساجد لم تعد أسيرة لدى المتطرفين و انه تم القضاء على اصل المشكل حين أُغلِّق عدد منها و تمت إقالة 289 شخصا من بين أئمة وقائمين على شؤون المساجد و استبدال بعض الآئمة باخرين ..  و غيرها من الحلول التي انتهجها وزير الشؤون الدينية في حكومة مهدي جمعة الانتقالية،آنذاك، منير التليلي، و لكن من الضروري أن نشير في هذا الصدد إلى أنّ تناسي مسألة تحييد المساجد وما يقابلها من ضرورة البحث في أصول المشكل و استئصال التطرف لا يخدم بأي شكل من الأشكال المرحلة الانتقالية التي نعيشها، لأنه ما من ضامن لتحول بعض المساجد (خاصة في الجهات الداخلية و المعزولة) إلى محاضن للإرهاب و التطرف و منطلق لرسالات مشفرة بين الإرهابيين .

هناك  إشكالات  أخرى  حقيقية لا تزال قائمة تتمثل في انعدام الشفافية و النقص في تقديم المعلومات الدقيقة و عدم تحديد المعايير المعتمدة لتعيين الأئمة فضلا عن عدم تحديد المساجد الخارجة عن السيطرة في تلك الفترة و بخاصة الآئمة الخارجين عن القانون .

المسألة إذا لم تعد كمية  بمعنى كم من المساجد تمت السيطرة عليها و كم هي تلك التي "حُرِّرت "لأنّ عددا قليلا من المساجد الخارجة عن السيطرة يمكن أن يؤديّ إلى تأثيرات غير مرغوبة في المجتمع.

كما أن هناك شروطا أخرى لابد من توفرها و أهمها أن الآئمة المتواجدين في الجوامع لابدّ أن يكونوا على درجة كبيرة من العلم و يُشهدُ لهم بالكفاءة و بالمستوى العلمي المرموق و ربما من المهم أيضا أن تتوفر فيهم مؤهلات علمية و أخلاقية و أن لا  "تصبح  الامامة بالغلبة و تحت سيطرة الأقوى"..

في الختام لن أقدم توصيات فقد تناولت الندوة التي نظمها المرصد العربي للاديان و الحريات حول "أي سياسة دينية للجمهورية الثانية" موضوعا مماثلا  و كنت قدمت خلالها بعض المقترحات من ضمنها ما يتصل بالمساجد و لكن سأتطرّق إلى نقطة مهمة جدا في الفكر السياسي في ما يتصل بالانتقالات الديمقراطية  و هي دور الفاعلين (théorie des acteurs)، في تجارب الانتقال الديمقراطي في العالم

و هنا أسلط الضوءعلى الدور الذي اضطلعت به الكنيسة الكاثوليكية في البرتغال،  التي و رغم تراجع دورها  في شتى مجالات الحياة اليومية خصوصا بعد سنة  1910 حيث منعت الجمهورية بصفة رسمية التعليم الديني في المدارس العمومية مع إدخال تعليم لائكي إلزامي، واستمر النظام السِّلْزَارِي على نفس النهج.

ورغم أنّ الحزب الشيوعي أهمل دور الكنيسة في البناء الديمقراطي، حاول الحزب الاشتراكي استقطاب نخبها الدينية ، و شكل هذا التوفيق أهم فرص نجاحه و هنا  لا يمكن تناسي أهمية الوازع الديني المسيحي..

 

 

لدى المواطنين. لذا، فبداهةً أن تكون الكنيسة حاضرة بوزنها في شتى الأحداث التي عرفتها الحياة السياسية بالبرتغال.

 انحصر  دور الكنيسة فقط في كونها كانت شاهدا  للجدل القائم آنذاك ، بين مختلف هؤلاء الفاعلين السياسيين في تلك المرحلة.  و لكن كان لها دور لا محالة فإذا: ألا يمكن إعادة صياغة القوانين و تهيئةالظروف و الإطار العام لدورالعبادة  بشكل يجعل هذه الدور، في تونس كما في إندونيسيا فاعلة في هذه المرحلة التي تستوجب تكاثف كافة الجهود و التفاف كافة الاطراف  حول الوطن؟

 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.