إذا التقى الشيخان يُحذف ما صلح !

كنّا و لا زلنا نعتقد أنّ ما حدث في تونس منذ ديسمبر 2010 هو انتفاضة سلميّة و بريئة قامت بها الطّبقة الكادحة والشّباب الذي ملّ البطالة و الفقر و التهميش و سانده في ذلك قلّة قليلة من المناضلين والمعارضين لنظام الرّئيس المخلوع.

و بعد تلك الهبّة الجماهيريّة أعلن كلّ العالم تأييده لموقف الشّعب التّونسي وانبهر بتجربته التّي ذكرت الدّنيا بما قام به المناضل التّاريخي "ماهاتما غاندي" حين أسس لثورة سلميّة فكريّة عصفت بالمستعمر الانجليزي و ألقت به خارج أرض بلاده.

ولو تأمّلت المشهد التونسي في الأيّام الأولى بعد سقوط "ديكتاتور قرطاج" لتشّكلت لك صورة مضيئة لمستقبل البلاد لما تراه من زخم في المفكرّين و المناضلين و غيرهم الذين برزوا لنا من خلال السّاحات العامّة و أستوديوهات الإعلام و أعمدة الصّحف.

و نتيجة لذلك كنّا نعتقد أنّ تونس ستمضي قدما في سبل التّقدم و الرّقيّ و التنوير إذا توفّر لهذه الإنتفاضة قيادة فكريّة قادرة على الذّهاب بتونس بعيدا خاصّة أنّ أغلب عوامل النّجاح متوفّرة بداية من الموقع الإستراتيجي لتونس عروس المتوسّط إلى جانب النّسيج الاجتماعي المنسجم تقريبا فتونس من بين الأقطار العربية القليلة التي كانت لا تشكو من "قبليّة" و لا "طائفيّة" و لا غيرها من أدوات التّفرقة التي أخذتها القوى الإستعمارية الغربيّة للتدّخل في كلّ شبر عربيّ.

كما أنّنا كنّا نعتقد أنّ تونس متصالحة مع المفهوم الصّحيح و الحقيقي للإسلام ممّا يمنع عنها التطرّف و الجهل و الغلوّ وهو ما حدث في الشقيقة الجزائر مثلا خلال العشريّة السّوداء. لكن الواقع كان مخالفا تماما للتوقّعات فبعد أشهر قليلة من الحراك إتّضحت العيوب الكثيرة التي كانت تنخر جسد تونس و التّي كان المتسبب فيها بعض الأطراف السّياسية التي سيطرت على المشهد السّياسي طيلة هذه الفترة.

ففي تونس أصبح الحقوقيّ يفرّق بين "السّافرة" و المتحجّبة" . و أضحت الجامعات تخوض حربا شرسة بين "علمانيين" و "إسلاميين" مما جعل الدّروس تتوقّف في هذه المؤسسات التعليمية. وهو ما يجعل المتأمّل يتأكّد من خروج الإنتفاضة عن مسارها السّليم فالمعروف أنّ البلدان التي لا تفكّر هي غير قادرة على الإستمرار و مجاراة هذا النّسق العالمي فائق السّرعة.

كما برزت مشاكل لا صلة لها بالواقع فمن الأقلّيات و التناحر بين أبناء المنطقة الواحدة  إلى "الحقوق" التي تطالب بها بعض الأصوات الخارجة عن النصّ ك"المثلية الجنسية" و غيرها من السلوكيات الغريبة عن الهويّة التونسية. وانساق الإعلام في هذه الحروب الشّعواء فأفلت كلّ العقول المفكّرة من المنابر لتعوّضها الأصوات المكفّرة و الظّلاميّة أو تلك الألسن المائعة و التي لا تنمّ إلّا عن عقول ساذجة كانت نهايتها بإخراج الإنتفاضة من سياقها حتّى آلت على صحبها و المؤسّسين لها بعد أن إحتفظت بحقوق ملكيّتها قلّة لا تعرف "الوطن" جيّدا.

وكلّ ذلك أدّى إلى هيمنة "طابع الدّم" على المشهد فمحمّد البراهمي الذّي بادر بالإنتفاضة في سيدي بوزيد إستشهد على يد الظّلاميين و التّكفيريّين يوم إحياء ذكرى الجمهوريّة و كأنّ من أرادوا اغتاله أرادوا ان يغتالوا معه مدنيّة الدّولة. و كذلك اغتيل شكري بلعيد صوت المستضعفين و حاميهم الأوّل وهو الذي كان يدافع عن الإنتفاضة من هيمنة هذه القوى الجديدة في كلّ مكان.كما شُّوهّت صورة التّونسي في العالم فبعد أن كان نصير مختلف القضايا و على رأسها القضّية المركزيّة أصبح اليوم التّونسي يذهب إلى سوريا ليقتل إخوته هناك كما عجز نوّاب المعارضة في المجلس التّأسيسيّ عن معادلة الكفّة لصالح القضية الفلسطينية بعد أن تشبّث نوّاب النّهضة و من معها بعدم تجريم التّطبيع مع الكيان الصّهيوني الغاصب.

كلّ ذلك حدث في حقبة الخمس سنوات الماضية و التّي سيطر عليها الشّيخان الباجي قايد السّبسي وراشد الغنّوشي فالأوّل يقود العائلة الدّستوريّة و الثّاني هو زعيم حركة النّهضة الإسلاميّة. و رغم تطوّر العلاقة بين الطّرفين و تذبذبها من  عداء واضح في 2012 إلى هدنة في 2013 إلى إنسجام و إنتلاف في 2015 خاصّة بعد إجتماع باريس التّاريخي فإنّ ذلك لم يعد الأمور إلى نصابها ممّا يرسّخ لدى كلّ مراقب للوضع ثبوت ضلوع الشيخين في إستنزاف روح الإنتفاضة التي فقدت أوجها الآن.

فالباجي انشغل بالشّقوق التي تقتل حزبه و نسي ما يفرضه عليه منصبه من ضرورة الإنتصار إلى خيارات الشّعب أمّا الغنّوشي فمكث يعالج مراجعاته الفكريّة التي لا تعني المواطن أو تونس في شيء رغم أنّه يقود جزءا هامّا من الرّأي العام و له أوامره النّافذة في الحكومة و مجلس النّواب…فإزداد الحال قتامة و غموضا أكثر بعد أن عمّ الفساد الإدارة و المؤسّسات و ساء الوضع بعد أن تمدّد الفقر و بالتالي عمّ الجهل و التفسخ…و ثبتت لنا فكرة أنّه إذا التقى شيخان يحذف ما صلُح".

 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.