من جحيم الأرض: كادحات لا يعرفن المرآة…و شباب يجهل "الأيباد"

 تسبق الفجر حين تستيقظ و كأنّها لا تريد لأحد أن يلمح الخيط الأبيض من الأسود قبلها أو كأنّها ترفض أن يستقبل أحدهم اليوم قبلها. ترتدي ما تيسّر من الثياب دون أن تهتم بإسم "الماركة" و لا بمقاييس جمال البُدلة . المهم هو أن يكون هذا اللباس قادرا على وقايتها من صقيع جبال الوسط التّونسي أو يخفف وطأته على جسدها النّحيل على الأقلّ.

 هي لا تهتمّ أبدا بمطالعة المرآة كلّ صباح فهي لم تتذكّر حتّى آخر موعد قابلت فيه وجهها على مرآة البيت. أمّا "الماكياج" و غيره فلا حاجة لها به لأنّها وجهها إحمرّ دونه بعد أن اعتادت على مداعبته نسمات الصّقيع التي دأبت على لسعه كلّ صباح وكأنّها تريد أن تطبع آثرها هناك و تغادر إلى صباح جديد .هذه أسطر ربّما تلخّص رحلة معاناة يوميّة تعانيها "كادحات" من بلادي لم يحفظن بعد قصيدة "نساء بلادي نساء و نصف " لشاعرنا أولاد أحمد.

المشهد قد يبدو غريبا على بعضنا و خاصّة الذين لم يغادروا مدن الرّخاء منّا. أولئك الذين لم يغادروا ولاية واحدة منذ سنوات و حتّى عندما يقصدون أماكن أخرى فالنيّة تكون للسّياحة و التّجوال. أمّا الواحدة من هؤلاء النّسوة فتعرج على أربع ولايات أو ثلاث يوميّا . يقدمن من سليانة و تمرّ عبر القصرين و سيدي بوزيد لتصل إلى القيروان. يقطعن عشرات الكيلومترات يوميّا حتّى يدرس أطفالهنّ و حتّى تجد عائلاتهنّ قوت يومها.

الجميلة و الوحش

سنعيد تفصيل الحكاية شيئا فشيئا. و سنبدأ كما انطلقنا في رحلتنا من جهة "المقرونة" وهي منطقة ريفيّة تنتمي إلى معتمديّة الروحية من ولاية سليانة و هي تقع على الحدّ مع ولاية القيروان .سمعنا عن حرائر "المقرونة" الكادحات في وطن لا يعترف غير اللاتي يظهرن على شاشة التّلفاز فقصدنا المنطقة على عجل لنقوم بهذا التحقيق . و قد اصطحبنا أحد أبناء المنطقة وهو نصر الدّين خرّيج كليّة "القانون". 

و لأنّنا في حقائق أردنا أن نكون أوفياء لـ"صحافة القرب" التي تريد تغيير الواقع فقد ذهبنا لمعايشة السّكان هذا الواقع. وصلنا إلى المقرونة في المساء على متن سيّارة تحمل عشرات النّساء اللائي تختلف أعمارهنّ . وجدنا "المقرونة" أو "الخضيرات" كما يدعوها سكّانها منطقة هادئة جميلة و كأنّها إحدى القرى اللاتينية المترامية قرب سلاسل الجبال هناك في أمريكا. هذه المنطقة حبلى بالمعطّلين عن العمل فكلّ الذين حازوا الشّهائد العليا إحتفظوا بها في رفّ ما ثم إنتشروا في الأرض بين الإشتغال في أعمال البناء أو خدمة الأرض بما تيسّر رغم رداءة الظّروف و انعدام التجهيزات و المعدّات المناسبة للفلاحة.

يمكث هؤلاء الشّباب هنا في دكّان أحد الأجوار .سيماهم على وجوههم من أثر التّهميش و البطالة و غيرها . "العطّار" قد حفظ ملامحهم و مطالبهم فـ"الإكسبراس" رفيقة الصّباح و المساء و منتصف اللّيل و السّجائر المبّسمة تبتسم لهم بعد أن كشّرت الأيّام عن أنيابها. هاهم في هذا المساء يلعبون الشّوط الثاني من مباراة قد بدأت في ليلة سابقة . "الرّامي" رياضتهم المفضّلة و "إفرش" هي لحظة السّعادة في غياب السّعادة الحقيقيّة .

و حين يمكث الرّجال في الدّكان أو في مقاهي القرى المجاورة التي يقطعون عشرات الكيلومترات لبلوغها . تتكفّل النّسوة برعي المواشي القليلة في سهول "المقرونة" الجميلة . و تخرج نساء أخريات إلى العمل في الرّابعة فجرا ليعدن إلى المنازل بعد مغيب الشّمس إثر يوم قاسِ يكن قد أمضينه في طلب الرّزق لإعالة الأسرة وفيرة  العدد.

"المقرونة " مازالت لم تعش بعد الألفيّة الجديدة أو حتّى لم تبلغ منتصف القرن العشرين رغم الذّكاء البادي على أطفالها و تلاميذها . فلا شبكة الماء لها أثر هنا و لا الطّريق صالحة للإستعمال . ممّا يضاعف المصاعب أمام السّكان ليتجلّى للمارّ من هنا حجم التّهميش الذي تعانيه المنطقة . التّهميش هذا الوحش الذي يفتك بهذه الجميلة التي تتوفّر بها طبيعة تسحر الألباب.

رحلة الشّتاء و الصّيف

و أمام بطالة الرّجال كان الحلّ في اشتغال النّساء حتّى و إن افتضى هذا العمل قطع عشرات الكيلومترات و تحمّل المشاقّ و المصاعب من أجل جني المال و إيجاد مورد رزق تعيش منه الأسر. قمنا برحلة مع هؤلاء النّسوة لنعيش الواقع بكلّ تفاصيله فتعرّفنا إلى يوميات هذه "الكادحات المنسيّات" .

تقوم النّساء العاملات في الثالثة و النّصف فجرا و في أقصى الحالات عند الرّابعة . فتتهيأ للرّحلة الطّويلة من "المقرونة" إلى "حاجب العيون" و التي تمر فيها بالجزء الشّرقي لسيدي بوزيد . تأتي السّيارات التي تحمل النّسوة إلى مقرّ العمل . فتجدهن ينتظرن و البرد كاد يتلف أصابعهنّ و نسمات الصّقيع قد قست عليهنّ و أذهبت حواسّهنّ حتّى أصبحت لهنّ عادة لا تخيفهنّ . تركب النّساء السّيارات ليقصدن مكان الشّغل وهو أحد الحقول هناك في "الحاجب" . تضمّ كلّ سيّارة قرابة الأربعين امرأة و تتوجّه إلى الوجهة المقصودة حيث ينتشرن في الحقول بنظام محكم كخليّة النحل التي حفظت عناصرها مهامهنّ جيّدا.

بين هؤلاء النّسوة تجد من لم تبلغ الثّامنة عشرة بعد كما تجد الخمسينيّة .و كأنّ الأجيال قد كتب عليها أن الا تلتقي إلّا من خلال هذه الحقول الواسعة . كما تجد هنا من حرمتها ظروف الحياة من دخول ساحة المدرسة حتّى . ففقر بعض العائلات يجعلها لا ترسل بناتهاللدّراسة.أيضا ستجد هنا من أكملن سنواتهنّ الجامعيّة و لم تحصل على عمل بعد فأجبرتها ظروف الحياة و إيمانها بضرورة العمل على السّفر ليلا من سليانة إلى القيروان للإشتغال بعرق الجبين و بكدّ اليمين .

هاؤلاء النّسوة يؤمنّ إيمانا راسخا بأنّه لا كرامة دون عمل و لا عيش دونه. و لذلك كابدن برد الشّتاء المتمترس بين سهول و جبال الشّمال و الوسط و تحمّلن "زحمة" النّقل عند السّفر ليدرس أطفالهنّ و لا يحدث لبناتهنّ ما حدث لهنّ . فهذه تعمل لتوفّر مصاريف الدّراسة لابنها البكر الذي ترى فيه مستقبلها و هذه تعمل لتعوّض عدم قدرة زوجها على العمل و أخرى تسعى لتوفير المال الذي يكفيها لإعداد "جهاز العرس" إعدادا جيّدا و كاملا. تشقّ السّيارات الطّريق الملتوية و الوعرة وهي تزحف صوب مكان العمل و تسعى أن لا تتأخّر فالمعلوم أنّ "الأعراف" و "أصحاب الشّغل" لا يتسامحون مع من يقصّر و لو دون تعمّد فالبدائل موجودة و هناك صفوف أخرى من النّسوة تنتظر الإذن بالشّغل و من تتغيّب فلن تجد مكانها شاغرا في اليوم الموالي.

مشقّة قبل الدّرس

يقول علي  الدّوعاجي "من طلب العلا سهر اللّيالي" و تقول الأسطورة "المقرونية" – نسبة إلى المقرونة – أنّ من طلب العلا سهر اللّيالي و كذلك كابد عذابات الصّباحات و عانى ألم الرّحلات. فهذه المنطقة تغصّ بالتّلاميذ و طلّاب العلم الذين يذهبون إلى المعاهد وهم يطمحون إلى عالم مختلف يعيشونه في المستقبل. بعد أن تنصرف النّسوة إلى العمل تأتي سيّارات أخرى مهمتّها نقل التّلاميذ إلى معاهدهم و تدفع لهنّ العائلات أجرة شهريّة مقابل ذلك . تأتي هذه السّيارات في السّادسة صباحا و تتجوّل بين المنازل المتفرّقة لتجمع التّلاميذ و تذهب بهم إلى المؤسسات التّربوية. "حقائق أون لاين" رافقت هؤلاء التّلاميذ في سفرة صبغتها رياح الصّقيع التي نزلت على الأجساد نارا ملتهبة و كأنّها تريد مضاعفة المعاناة.

الظّلمة تخيّم على الطّبيعة و البرد يستوطن الضّلوع و يسكن العروق ليُخرس ألسن الصّبية التي نعرف أنّها لا تكفّ عن الكلام في العادة. كان القرّ لا يوصف و البرد يحدث موسيقى رائعة مصدرها "صفير الطّقس" و "الصّوت الذي يحدثه صرير الأطفال. هذا الصّرصر القارس هو كاف بأن ينسى النّاشئة كلّ الدّروس المقدّمة. كانت تلك المناسبة الأولى لنا كي نعرف المعنى الحقيقي للبرد.هذا البرد الذي تحالف مع الظّروف الصّعبة ليزيد في انتشار ظاهرة الانقطاع عن المدرسة.

عندما تتحدّث إلى التّلاميذ و تذكر لهم ألفاظا معاصرة على غرار "أيباد" و "أيفون" فهم لا يفهمونها لأنّها لم تصل إلى هنا بعد. فيما يحدّثهم بعض الوزراء عن تسليحهم بهذه الأجهزة المتطوّرة للتعلّم.

سقوط القرن الجديد

أمام انعدام وصول شبكات المياه الصّالحة للشّرب للمنطقة . كان على السّكان قطع مسافات طويلة لجلب المياه من سيدي بوزيد و غيرها من المناطق المجاورة . وذلك لتفادي الحلّ الآخر و الذي عادة ما يتمّ اللجوء إليه في النّهاية وهو الذّهاب إلى "وادي الحطب" على متن الدّواب لجلب المياه. إذ تقصد النّساء هذا الوادي الآتي من الجزائر يشقّ القصرين و غيرها من المناطق بما فيها "المقرونة" ليصل إلى القيروان مارّا بذلك على كلّ الوسط التّونسي."حقائق أون لاين" ذهبت أيضا مع بعض الشّباب إلى هذا المكان لتكتشف حجم التّهميش التي تعيشه الجهة.

من المصاعب الأخرى انعدام مركز الرّعاية الأساسيّة بهذه المنطقة رغم كثافة سكّانها ممّا يجعل السّكان يتعذّبون حين تطرأ عليهم حالة مرض عاجلة أو حالة تسمّم و قد ذكر لنا البعض موت البعض سابقا بعد تعرضّه للسعة حيوان زاحف و تعذّر وجود مركز صحّي قريب.

كلّ هذا يحدث في "المقرونة" التّي يبدو أنّها اقترنت بالمعاناة التي لا نظير لها في أجزاء هذا الوطن الجريح. كلّ هذا يحدث في القرن الحادي و العشرين ،قرن التطوّر و الحداثة و العولمة التي يبدو أنّها لا تستطيع السّير في المناطق الوعرة أو ربّما تصدّها قمم الجبال على بلوغ تلك السّهول المهمّشة.

آخر الأخبار

الأكثر قراءة

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.