لا شكّ في أنّ النخبة التقدميّة/العلمانية في تونس خلال الزمن الرّاهن قد مثّلت حجر عثرة ككتلة تاريخية-ولو متشرذمة- ساهمت في التصدي لمشروع حركة النهضة/الاتجاه الاسلامي سابقا المتمثل في محاولة أخونة الدولة والمجتمع بما يعنيه ذلك من تهديد للمكتسبات التحديثية التي تعود جذورها إلى القرن التاسع عشر إبان بروز تجربة الإصلاح والاستنارة.
فعلى امتداد فترة الحكم البورقيبي وخلال عهد الرئيس بن علي،علاوة عن الفترة التي تلت الثورة وماشهدته البلاد من محاولات لقلب النمط المجتمعي خاصة خلال عهد حكم الترويكا التي قادتها حركة النهضة تحت مسوغات اعادة الاعتبار لمسألة الهويّة ونصرة "الاسلام الجريح"،كانت النخبة التقدميّة في طلائع القوى التي تمسكت بناصية الارث التاريخي لتونس ولشعبها الذي انساق لفيف هام منه وراء الاطروحات الطوباوية للاسلام السياسي في تمظهره النهضوي/الاخواني.
وقد شهدت الجامعة والفضاءات العامّة طيلة عقود من الزمن سجالات فكرية وايديولوجية و سياسية بين المعسكرين دفعت بحركة النهضة إلى تدارك خطابها الراديكالي و تطوير ما تعلنه من رؤى ومقاربات رغم عدم جزمها نهائيا وبشكل حاسم في القطع مع مشروعها الاخواني/الاصولي الذي ولد من رحم حراكها الدعوي.
ومن الملاحظ اليوم بعد تجربة الحكم التي خاضتها حركة النهضة والمقاومة الشرسة التي جوبهت بها من قبل النخبة العلمانية المناهضة لها ولمشروعها المجتمعي المحافظ الذي قام منذ البداية على خلط منهجي وتداخل بين الدين والسياسة،أنّ الحزب الذي بات الأوّل صلب البرلمان من حيث التمثيلية النيابية قد شرع في انتهاج استراتيجية جديدة في التعامل مع صفوة المجتمع التونسي من جامعيين و كتّاب و مثقفين ومفكرين و اعلاميين بغرض استمالة البعض منهم وتحييد جزء آخر من أتون المواجهة الثقافية والفكرية المدنيّة و المشروعة قانونيا التي يمكن أن تستعر في كلّ وقت وحين على غرار ما حدث مؤخرا من صراع بشأن المساجد وطريقة إدارتها و تعيين القائمين عليها من خطباء و أئمة.
التوجه الجديد الذي تسير فيه حركة النهضة يبدو أنّه مدروس بعناية وقد يفضي إلى تسجيل الحزب الاسلامي الذي بدأ يظهر بثوب عصري مدني في الآونة الاخيرة لنقاط اضافية في خضم نزع الأشواك المزروعة في طريق إدارة مشروعه السياسي والايديولوجي الذي من الصعب أن يكون قد تخلى عنه بين عشيّة وضحاها دون مراجعات عميقة مدوّنة تكون مقدمة لتنزيلات على الواقع المعيش.
فهل تنجح حركة النهضة في اختراق النخبة التقدميّة/العلمانية التي طالما مثّلت هاجسا مؤرقا لها بزيجة على الشاكلة الكاثوليكية؟