على هامش الثورة المغدورة: آلام وآمال

"ما عادش نخافو من حد.. تحررنا.. الشعب التونسي حر.. تحيا تونس الحرة.. المجد للشهداء.. الحرية للتوانسة.. بن علي هرب.."، بهذه الكلمات لخّص القيادي في الجبهة الشعبية عبد الناصر العويني شعور التونسيين يوم فرّ الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي في 14 جانفي 2011 إثر موجة احتجاجات لم تشهد البلاد لها مثيلاً عمّت مختلف أنحاء الجمهورية للمطالبة بـ"الشغل والحرية والكرامة الوطنية".

اليوم، تمرّ خمس سنوات على الثورة التي أُطلقت عليها عديد التسميات، فالبعض اختار لها اسم "ثورة الياسمين"، وفضّل البعض الآخر تسمية "ثورة الكرامة"، في حين يرفض آخرون الاعتراف بها كثورة ويعتبرون ان ما وقع حينها هو انتفاضة وهبّة شعبية ضدّ الظلم والاستبداد الذي حكم مفاصل البلاد لعقود، و هناك حتى من يرى انها انقلاب خُطّط له داخل ما يعرف بـ"الغرف السوداء".

وبعيداً عن اختلاف الرؤى والقراءات والتسميات لثورة 17 ديسمبر 2010- 14 جانفي 2011، فإن ما حدث إبان الثورة وبعدها كان يمكن أن يغيّر حاضر تونس ومستقبلها لو وجد من يفكّر بمصلحة البلاد ويهتمّ بمطالب من خرج لمواجهة القمع والرصاص للمطالبة بحقه في حياة كريمة وحرّة. إلا أن الثورة قد طُعنت في ظهرها وتعرّضت للتنكيل والغدر يوم أصبحت الحسابات السياسية والطموحات الشخصية أولوية على حساب مصلحة الوطن ومستقبل الشباب الذي أمل الكثير من  الثورة لتفتح له آفاقا جديدة تغيّر حياته إلى الأفضل  وتفتح صفحة جديدة في تاريخ تونس تنهي ما كانت تعيشه من مظالم وقهر.

إن الانطباع العام لدى جلّ التونسيين اليوم  يوحي بأن لا شيء تغيّر باستثناء رأس النظام الذي رحل وعوّضه آخر يشبهه ولكن ملامحه الخارجية مختلفة قليلا. ويذهب البعض في اتجاه متشائم حيث يعتبر ان الوضع الحالي أسوأ ممّا كان عليه بل ويطالب بعودة بن علي.

ولعلّ قراءة بسيطة للواقع التونسي اليوم تبرّر نوعاً ما هذه النظرة "السوداوية"، فتونس أصبحت تعيش تهديدات إرهابية، وهو تحدّ لم تعهده سابقاً، كما أنها شهدت اغتيالين سياسيين لقائدين من الجبهة الشعبية وعمليات استهدفت الجيش والأمن التونسيين، ووصلت كذلك إلى مواطنين أبرياء بسطاء وأجانب لا ذنب لهم سوى أنهم كانوا يحتفون بالحياة.

علاوة على ذلك، تعيش تونس وضعاً اقتصادياً حرجاً ومن المتوقع أن يزداد صعوبة خلال السنوات المقبلة حيث تصبح تونس مطالبة بإعادة الديون المتخلّدة بذمّتها والتي بلغت 50 مليار دينار خلال سنة 2015، إلى جانب تردّي القدرة الشرائية وتأزم الوضعية الاجتماعية وارتفاع نسبة البطالة خصوصاً في صفوف الشباب.

كلّ هذا في ظلّ وجود حكومة لا تملك أي برنامج واضح ومتكامل لإخراج البلاد من أزماتها ووضع خطة تنمية شاملة تنهض بالبلاد كاملة، وتكتفي بمعالجة المشاكل التي تواجهها بطريقة ارتجالية، وذلك وسط مشهد سياسي ضبابي يترأسه ائتلاف حاكم مكوّن من 4 أحزاب، وحزب كان إثر انتخابات 2014 حزباً أغلبياً وأصبح نتيجة خلافاته التي لم تحلّ و"شقوقه" الحزب الثاني في البرلمان بعد حركة النهضة : و هذا في الوقت الذي تبدو فيه المعارضة، بمختلف أحزابها ومكوناتها، تائهة تبحث تارة عن تحالفات في ما بينها وتتباعد تارة أخرى، وعاجزة لم تنجح في تقديم البديل الواقعي والبعيد عن المزايدات والشعبوية والتحجر الفكري، والذي يبحث عنه التونسيون.

وفي خضمّ كلّ هذا، تسيطر على مفاصل الدولة والمؤسسات كما تسيّر دواليب الأحزاب، سواء كانت الموالية أو المعارضة، شخصيات من الماضي كان يجب أن تمنح الشباب فرصة حقيقية للبروز والدفع بالبلاد إلى الأمام. ،هذا الشباب الذي بالرغم من الدور الهام والكبير الذي لعبه ويلعبه من خلال تواجده في التظاهرات وعلى الساحات، يجد نفسه مقصى من ممارسة السياسة في مناصب قيادية سواء داخل الاحزاب أو في مؤسسات الدولة، الأمر الذي يعمّق شعوره بالتهميش والازدراء ويسهم بشكل كبير في إبعاده عن النشاطات المدنية والسياسية. فضلاً عن تناسي شهداء الثورة وجرحاها ومرور خمس سنوات لم تتحقق فيها أية عدالة انتقالية تضمن حقوق من تعرّضوا خلال عقود الديكتاتورية للظلم وتسمح بإقامة مصالحة وطنية حقيقية قائمة على أسس قوامها الحق والعدالة والعقاب.

هذه التحديات والنقائص مجتمعة و إن كان لا يمكن إلا أن  تخلق روحا من التشاؤم والإحباط لدى عموم التونسيين، إلا أنها يجب أن لا تكون سبباً لليأس والاستسلام، فالطريق لازالت طويلة وشائكة لكنها ليست مستحيلة.فعلى الرغم من كلّ الصعوبات، لا يمكن إنكار واقع أن تونس أضحت بلداً ديمقراطياً، أو على الأقل يسير على طريق الديمقراطية ولا ينقصه إلا مزيد تفعيل الممارسة الديمقراطية في الحياة اليومية والإيمان الكلّي بمبادئها وقيمها، وبات لديها مؤسسات وهياكل دستورية تسهر على عدم تجاوز الدستور، إلى جانب مجتمع مدني متيقظ وجاهز للاحتجاج على حقوق المواطن وحرّياته، والتي عادت لتكون مستهدفة في بعض الأحيان.

التحديات ضخمة نعم لكن هذا لا يعني أنها مستحيلة، فكلّ ما تحتاجه البلاد هو بعض التضحية والكثير من العمل وإعمال "المادة الشخمة" والقيام بمراجعات نقدية تنطلق من الذات حتى تتطور مع الوقت وتسمح بتشكّل مشهد سياسي وثقافي وفكري جديد يكون متماشياً مع متطلبات العصر وملبّياً لطموحات شعب ضاق من التعسف والقمع ما فيه الكفاية وأصبح حراً يرفض عبادة الأشخاص ولا يسمح لأي شخص كان باستعباده.

آخر الأخبار

الأكثر قراءة

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.