المؤتمر العاشر لحركة النهضة: تحديات الانتقال لمرحلة ما بعد الغنوشي! بقلم محمد اليوسفي

تعيش حركة النهضة منذ أشهر خلت مخاضا عسيرا في سياق الإعداد للمؤتمر العاشر للحزب الذي بات يتبوأ مكانة طلائعية وازنة في الحراك الديمقراطي والعملية السياسية التعدّدية في تونس ما بعد الثورة.

ولا شكّ في أنّ الحزب الذي وصفه زعيمه التاريخي راشد الغنوشي ذات يوم بأنّه العمود الفقري للجسم الحزبي في الساحة السياسية التونسية غداة التحوّل الطارئ بعيد 14 جانفي 2011 – وهو إلى حدّ ما محقّ في ذلك – قد بات في مفترق طرق في ظلّ المستجدات التي طرأت على البلاد عقب الاطاحة بالنظام الاستبدادي الأحادي للرئيس السابق زين العابدين بن علي.

من المهم هنا التذكير بأنّ الحزب الذي سيحتفل خلال مطلع الصائفة القادمة بالذكرى الـ35 لتأسيسه منذ أن كان تحت مسمّى حركة الاتجاه الإسلامي قد مرّ بمنعطفات ومطبّات عديدة كادت تنهي عمليا وجوده السياسي الفعلي في حال ما تواصل الوضع السياسي على ما كان عليه قبل هبّة الشعب التونسي إبّان الثورة التي بعثت روحا جديدة ، لا في حركة النهضة فحسب ، بل في المشروع الديمقراطي والاصلاحي التونسي الذي ورثته أجيال متعاقبة منذ القرن التاسع عشر. كما أتاحت لجميع الأحزاب ومكونات المجتمع المدني الانتظام والنشاط في مناخ اتّسم بالتحرّر و التعدّد وفقا لقاعدة الاختلاف.

لقد ظلّت حركة النهضة طيلة فترة السجون و المنافي التي تلت الخطأ التاريخي الكارثي الذي أقرتّه قيادتها في مطلع تسعينات القرن المنصرم ، حينما اختارت مواجهة السلطة السياسية الحاكمة عهدئذ ، حبيسة ردود فعل قد تلخصها بيانات و ظهور اعلامي كان محلّ تعتيم و تأثير شبه منعدم لرئيسها راشد الغنوشي و بعض قياداتها في المهجر.

ترجّل صالح كركر حاملا معه جزءا من ذاكرة و أسرار الحركة. وتوفي قبله مبروك الزرن في ظروف مسترابة في السجن فضلا عن الصحفي سحنون الجوهري وعضو الشورى عبد الرؤوف العريبي وغيرهما كثيرون. وقفز الفاضل البلدي من السفينة حينما أوشكت على الغرق مباشرة بعد وقوع حادثة باب سويقة الشهيرة في 17 فيفري 1991 متبرئا من منهاج العنف السياسي الذي لم يكن لفيف من قيادة الحزب حاسما في القطع معه.كما هُمّش القاضي صالح بن عبد الله البوغانمي و من بعده الحبيب اللوز و الصادق شورو الذي بات يشعر باغتراب حقيقي صلب التنظيم الذي كلّفه الاصرار على الاعتراف بالانتماء اليه عاما اضافيا من السجن بعد أن أفرج عنه وهو الذي كان قد قضى أكثر من 17 سنة سجنية معظمها في غياهب الزنزانة الانفرادية. بيد أنّ الحركة واصلت طريقها محاولة لملمة جراح الماضي القريب بأخطائه الرعناء وبضرائب تكلفة التجاسر على الوقوف إزاء نظام استبدادي خرج كالمارد من قمقمه ليحوّل البلاد إلى سجن كبير، بحسب تعبير البعض ممنّ عايشوا مظالم ومحن تلك الحقبة من معظم مكونات الطيف السياسي المنافح عن الخيار الديمقرطي بمختلف تلويناته.

كان حدث الانبعاث الجديد لحركة النهضة بعد 2011 والتكليف الشعبي الذي حظيت به لتسيير البلاد في مرحلة دقيقة ومفصلية، بمثابة الفرصة التاريخية التي كادت تفوتها على نفسها وعلى البلاد بعد أن غرقت في نوستالجيا مشروعها القديم الذي لم يواكب التحوّلات والتغيّرات و الوعود السابقة  بالتخلي عن طوباويات الإسلام السياسي التي كان من المفروض أن تكون قد قطعت معها منذ التوقيع على الميثاق الوطني في 1988 وخاصة بعد التوافق صلب هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات مع شركائها في الوطن من "العلمانيين".

قد يجوز القول في هذا السياق بأنّ القرار التاريخي الذي وافقت عليه الحركة بدفع قويّ من رئيسها راشد الغنوشي والمتمثل في الخروج من الحكومة بطريقة "مشرفة" وليس من الحكم، درءا لأيّ شبهات قد تتسبّب في إجهاض المسار الانتقالي في أعقاب التعثّر في إدارة شؤون الحكم بشكل عقلاني يعلي من شأن الدولة الوطنيّة المدنيّة التي تكون فوق الأحزاب ورؤاها الضيّقة، أنقذ البلاد و العباد من سيناريوهات مجهولة العواقب كان يمكن ان تفضي إلى حصول تطوّرات أشبه بالتي عرفتها وتعرفها بعض الدول العربية في الوقت الرّاهن.

إنّ الغنوشي اليوم حيال امتحان عسير ومصيري وهو الذي يحظى بمكانة اعتبارية كبرى داخل العائلة النهضوية. لقد نجح زعيم حركة النهضة طيلة مسيرته السياسيّة في كسب ودّ جمهور "الإسلاميين السياسيين"و نيل مرتبة "قائد الجماعة". لكنّه الآن إزاء مسؤولية تاريخية من شأنها أن ترتقي به في حال تمكنه من دفع الحركة التي يترأسها منذ أكثر من 3 عقود إلى تعديل مسارها و تطوير أدبياتها وتخليصها من الشوائب التي اعترتها منذ مدّة لإدماجها نهائيا في المشروع الوطني العصري التونسي بقطع النظر عن الفويرقات الفكرية و السياسيّة و المجتمعية التي ستظلّ قائمة، إلى مكانة "الزعيم الوطني" الذي قد يضاهي في قيمته الرمزية في الذاكرة الوطنيّة الجماعية ما قدّمه الحبيب بورقيبة و فرحات حشّاد و صالح بن يوسف لتونس وشعبها.

في الحقيقة، المؤتمر العاشر لحركة النهضة ،التي هي مطالبة بالخروج من عباءة ثقافة المظلوميّة والتوجسّ خيفة من الاخر المخالف لها وقطع حبال التردّد بشأن الحسم في منهاجها السياسيّ و رؤيتها المضمونية وأطرها التنظيمية والسعي بالوصول لتحقيق مصالحة شاملة مع ذاتها ومع منافسيها السياسيين من الدساترة والتجمعيين واليساريين أيضا ، يُتوقع أن يكون محطّة للشروع في فترة انتقاليّة تعدّ العدّة لمرحلة ما بعد راشد الغنوشي بما يلخصّه زعيمها التاريخي من مرحلة تنقّل فيها الحزب بقياداته و قواعده من السريّة والعمل تحت الارض إلى العلنيّة و النشاط تحت أضواء الشمس على قدر المساواة و تكافؤ الفرص مع بقيّة الفرقاء السياسيين، وشهد خلالها صعودا إلى سدّة حكم بعد زمن طويل من المعارضة غير المعترف بها قانونيا من السلطة.

إنّ تحوّل حركة النهضة من قوّة معارضة و أحيانا "تدمير" للدولة و لمكتبسات المشروع الاصلاحي لجيل ما بعد الظفر باستقلال البلاد ، والذي تدعم بدستور 2014 الذي تضمّن تركيز دعائم هامة للقطع مع الارث الاستبدادي والمضي قدما في الخيار الديمقرطي، إلى قوّة بناء يبقى هو التحدّي الأكبر، علاوة عن تحديّات أخرى تدور جلها في فلك ما يمكن اعتباره الحتمية التاريخية لهذا الكيان السياسي العريق وهي مسألة تحوّله إلى حزب ديمقراطي تونسي عصري أصيل بنفس شبابي و نسوي يعلي من شأن الدولة والحريّات وحقوق المواطنة على حساب الرؤية الماضوية لجزء من قياداته و قواعده للثنائية الجدلية : الدين والسياسة.

آخر الأخبار

الأكثر قراءة

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.