أثار قرار إعفاء وزير العدل محمد صالح بن عيسى الكثير من الحبر واختلفت ردود الفعل بين مرحّب بهذا القرار ومستنكر له ، وبين من يعتبر ان وزير العدل بأدائه وتصريحاته كان لا بدّ له إما أن يستقيل أو يقال ، و من يعتبر ان دفاعه عن حقوق الإنسان وتمسّكه بمبادئه كان وراء قرار جائر قضى بإعفائه بطريقة غير عادلة.
ولئن تباينت المواقف والقراءات حول قرار إعفاء وزير العدل، فإن خطورة الأمر تتمثّل في الأسباب المعلنة وغير المعلنة حول إقالة بن عيسى، إذ أنها في حصيلتها تثبت ان الوزير تميّز طيلة فترة تولّيه مهامه بأداء حرّك ركود الحياة السياسية المعتادة للوزراء الذين اعتادوا الاختباء في أبراجهم العاجيّة.
فالوزير المقال التزم بالدفاع عن حقوق الإنسان وعن الدستور، حيث كان له موقف شجاع حين دعا إلى إلغاء الفصل 230 من المجلة الجزائية الذي يعاقب على المثلية الجنسية. هذا الموقف، وإن حظي بمباركة عدد من الجمعيات والحقوقيين المؤمنين فعلياً بالحرية الشخصية والدستور، استنكره طيف واسع من المجتمع التونسي بشقّيه المدني والسياسي وجعل منه محطّ رفض ونقد من قبل جهات مختلفة من بينها أحد أحزاب الائتلاف الحاكم و كذلك من قبل رئيس الجمهورية الذي رد على تصريحات وزير العدل بالتأكيد في مقابلة تلفزيونية أجراها خارج أرض الوطن على ان الدعوة لإلغاء هذا القانون لا تلزم إلا بن عيسى وان الفصل 230 لن يتمّ إلغاؤه.
لكن على الرغم من ان موقف بن عيسى من قانون المثلية قد أثار غضب الكثيرين فانه ليس سبباً كافياً أو مقنعاً لإقالته من منصبه. ويعتبر البعض ان قرار الإعفاء هذا جاء نتيجة تراكمات لمواقف عديدة، من أبرزها تصريحاته خلال الاستماع إليه من طرف لجنة الحقوق والحريات بمجلس نواب الشعب يوم الجمعة الفارط حول مشروع قانون يتعلّق بتجريم الاتجار بالبشر والتي قال فيها ان السفير الأمريكي أراد التدخّل في شأن لا يخصّ بلاده، وذكّره ان لتونس مجلس نواب شعب هو من يحسم في مسألة التشريع مضيفاً انه"لم يبق إلا أمريكا لتعطينا تعليمات".
ثم جاء تصريح رئيس الجمهورية لدى سؤاله عن قرار إعفاء وزير العدل حيث قال "الوزير الذي لا يملك الجرأة والقدرة للدفاع عن مشروع قانون قدمته الحكومة التي ينتمي إليها مكانه خارج الوزارة". وذلك في إشارة إلى موقف بن عيسى الرافض لمشروع قانون المجلس الأعلى للقضاء والذي كان عبّر عنه بتغيّبه عن لجنة استماع بمجلس النواب لبحث مشروع هذا القانون.
وهنا تكمن الخطورة في مسألة إقالة وزير العدل، حيث يتبيّن جلياً أن إعفاءه جاء لسبيين رئيسيين: الأول انه رفض تدخل أمريكا في التشريع التونسي، والثاني انه غير مقتنع بمشروع قانون أعدّته حكومته.
والسؤال الشرعي الذي ينبغي ان يطرح نفسه هنا هو هل إننا نعيش في ديمقراطية حقيقية أم إننا نخدع أنفسنا بممارستنا لـ"طقوس" الديمقراطية دون أن ندرك معناها وقيمتها فعلاً؟!
إن محاولة إقناع أنفسنا بأننا نعيش عصر الديمقراطية أمر صعب للغاية، خاصة عندما يعفى وزير أو يقال لأنه تجرّأ وغرّد خارج السّرب. فما حصل لوزير العدل يجعلنا نشعر، بشكل لاإرادي، ان من يحاول ان يبتعد عما تخطّه الحكومة، أو رئاسة الجمهورية، دفاعاً عن مبادئه و عما يؤمن بأنه صواب، تصبح التضحية به أمراً سهلاً يحدث في رمشة عين أو بـ"شخطة" قلم، بغضّ النظر عن كفاءته ومساهمته في المنصب الذي يتولاه.
ترى، متى يدركنا مسؤولونا ان الوزراء داخل الحكومة الواحدة يمكن لهم ان يختلفوا، بل يجب عليهم ان يختلفوا ليصلوا إلى ما هو في مصلحة المواطن، لا ان يكتفوا بما يتوقّع منهم من التزام بإسقاطات وأوامر؟ أم انهم يعون هذا الأمر ويتجاهلونه؟!