المسيرات الاحتجاجية السلمية التي خرجت السبت في أكثر من ولاية للتظاهر ضدّ مشروع قانون المصالحة الاقتصادية والمالية لا يمكن النظر إليها موضوعيا إلاّ من زاوية دينامية العملية الديمقراطية في تونس.
لقد شهدت البلاد أسبوعا مشحونا بالتجاذبات الناجمة عن تباين مواقف مكونات المشهد السياسي -الحزبي و المجتمع المدني إزاء مبادرة رئاسة الجمهورية،وذلك تزامنا مع تصاعد وتيرة التهديدات الارهابية في ذكرى أحداث الحادي عشر من سبتمبر وهو ما صعّد في درجة تأهب أجهزة الدولة لاسيما الأمنية منها للحيلولة دون وقوع أيّ تطوّر غير محمود.
تمسّك القوى المعارضة بتنظيم تحرّك احتجاجي تعبيرا عن رأي مخالف للفريق الآخر المنافح عن مشروع قانون المصالحة و دفاعا عن حقّ دستوري يمكن اعتباره من المكاسب القليلة التي تحقّقت بعد الثورة، يعدّ كسبا حقيقيا لتحديات جمّة لعلّ من أبرزها بعث رسالة قويّة لكلّ من يروم الدفع بالبلاد خارج الأطر الديمقراطية القائمة على احترام القانون و المؤسسات.
علاوة عن ذلك،فإنّ نجاح قوات الأمن ومن خلفها السلطة الحاكمة في تأمين و حماية مسيرات القوى المعارضة لمشروع قانون المصالحة الاقتصادية والمالية يؤكد مجدّدا أنّ تونس ماضية في طريق الديمقراطية رغم المثالب و الهنّات.
إنّ الديمقراطية في مفهومها الشامل و العميق ليست مجرّد عملية انتخابية أو تداولا سلميّا على السلطة من قبل أحزاب أو شخصيات سياسيّة،بل هي فلسفة حضارية تقوم على قاعدة إدارة الاختلاف بكلّ الآليات السلمية و المدنية بعيدا عن منطق المغالبة أو المكابرة. وهنا يكمن الدرس الذي يجب أن تستوعبه السلطة الحالية في ظلّ الانقسام الحاصل إزاء مبادرة رئيس الجمهورية الذي يبقى دائما الضامن لاحترام الدستور و الذود عن الأمن القومي.
ليس مهما إن كانت الأطراف المناوئة لمشروع المصالحة الاقتصادية تمثّل أقليّة أو أغلبيّة فالديمقراطية لا تقاس بالعمليات الحسابية العدديّة الصرفة بقدر ما يجب أن تبنى على أسس منهاج تغليب المصلحة العامّة و التوافق الذي صنع استثناء تونسيا وسط ركام الخراب و الدمار في العالم العربي.
إنّ السلطة الحالية باتت مطالبة أكثر من أيّ وقت مضى بمراجعة آليات عملها و أسلوبها التواصلي في اتجاه مزيد تعميق الحوار و التشاور حتّى تفوّت الفرصة على كلّ من يتربّص بأحلام التونسيين في تحقيق الاستقرار السياسي و حلحلة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية وغيرها بمقاربة تساعد على البناء لا الهدم والعبث بمستقبل الأجيال المقبلة.
ولا شكّ في أنّ الخطوات الأخيرة التي أقدم عليها رئيس الجمهورية للاستشارة والاستنارة و الانصات للرأي المخالف يمكن أن تشكلّ الحجر الأساس للخروج من المأزق الحالي الذي تمخض عن قضايا اشكاليّة كبرى على غرار العدالة الانتقاليّة و المصالحة الوطنيّة التي اصطبغت بالجدل و التضاد في الآراء .
غير أنّه من بين الاستنتاجات التي يمكن أن نخلص لها ممّا جدّ اليوم إمكانية ايجاد أرضية لبلورة علاقة مثلى بين المؤسسة الأمنية والمواطن تكريسا لقاعدة الأمن الجمهوري المحيّد عن الصراع السياسي و دولة المواطنة القائمة على احترام الحقوق و الحريات الدستوريّة.
هكذا من المهم في المحصّلة أن نفخر اليوم كتونسيين بأنّ الديمقراطية الناشئة رغم كلّ الهزّات و المطبّات،هي في طريقها للتغلّب على العدو الأكبر وهو الارهاب.