حين تدقّ شيماء بابَ الحرية بيد مضرّجة بالدماء

الإهداء: إلى شيماء الصباغ التي قالت "لا" -للدكتاتورية العمياء- فجاءها الموت سريعا.. ليأخذها إلى الماوراء.. حيث نهر الأبدية ودموع بني البشر أجمعين..

اقتادتك-يا شيماء-مصر من يد روحك ومضت بك إلى الماوراء حيث نهر الأبدية ودموع بني البشر أجمعين..

اقتادتك من يد روحك،ومضت بك إلى فردوس الطمأنينة،بل ربما إلى النقيض.

و ما علينا بعد هذا الألم، وبعد كل هذا الدّم، إلا أن نتأمّل وننتظر.

جرح مفتوح،وعدالة شائخة،وضمير إنساني كسول وضرير..لا يفعل إلا أن يعدّ حصيلة الخراب ويتأفّف من وفرة دماء الموتى..وأيضا ينتظر..

ضجرت ذاكرة التاريخ.ضجر الشهود.ضجرت الأسلحة والقوانين والمذاهب والسماوات،وضجرت أرواح الموتى..

لكن-وحدها- شهوة القاتل إلى مزيد من الدّم..لم تضجر..الدّم يشحذ شهية الدم..

منذ سنوات،وعلى شاشة الملأ الكوني،تترقرق الدمعة الأكثر إيلاما وسطوعا في تاريخ صناعة العذاب،وتفيض غصّات الأمهات على حافة الدمار،وتعلو صيحة الضمير الأعزل الكفيف،مستنكرة ومسنكَرة،كأنما هي صيحة ميت طالعة من قاع التابوت:ثمة شعب يصبو إلى التحرّر والإنعتاق.

شعب غدا في عراء الخليقة الدامي.تقذفه الرياح الكونية من بيت مغزوّ..إلى بيوت تتهدّم..إلى هواء يتهدّم..إلى جغرافية تتهدّم..إلى عدالة تتهدّم..إلى أمل يضيق ولا يتهدّم..ذلك هو العراء الخالص.

ودائما خلف بنادق العسكر،كان حلفاء وقضاة وجيوش.وخلف الضحية..العماء والصمت.وخلف العماء والصمت ثكالى يقمن أعراسهن على حواف المقابر:أعراس مجلّلة بالسواد ومبلّلة بالنحيب.

أعراس دم.

لكن، بصناعة الموت وحدها، لا تسطيع "القوّة العمياء" أن تسوّي حساباتها مع العالم، إذ لا يمكن، بالقوّة وحدها، أن تطمس (بضم التاء) حسابات الموتى.

لذا فأبناء مصر، ومنذ عقود من الزمن، يعلمون علم اليقين أنّ هناك من عقد العزم على إبادة الحياة وعلى إفسادها وتحويل -القاهرة- إلى جحيم. وهم على يقين أيضا، بأنه يستدرج الحياة إلى الهاوية حيث لا شيء غير الموت وصرير الأسنان. وها هو -شبابك يا مصر- يتسابق إلى الموت لأنه مؤتمن على استمرار الحياة.

من هنا تستمدّ المواجهة في -ميدان التحرير- عنفها المدوّخ الضاري.

علّمنا التاريخ -يا شيماء- أنّه في أحيان كثيرة يمكن للأمل الأعزل أن ينتصرَ على جنون القوّة المدرّعة. إذن على الشعوب العربية أن تأمل.

القويّ يتكلّم بجنونه.. والضعيف بأمله. أما العدالة فليست سوى كلمة يتلذّذ بمذاقها الشعراء والحمقى. العدالة الوحيدة الممكنة على الأرض هي سلطة القوّة والمال والسلاح.

لذا، ليس لدى اليائس إلا أن يأمل. الأمل ليس نقيض اليأس: الأمل مغزاه. الأمل معجزة اليائس.

لهذا -على هذه المبعدة الغامضة عن نجمة الحرية- يمكننا أن نرى، خلف دخان الجنون وجلبة القوّة، علم مصر وشمسها وأشجارها وأهراماتها ومدارس أطفالها وحقولها و-صعيدها- وسماءها.. وتحت سمائها تلألؤ الرنّة السخيّة لفرح الإنسان.

أيتها الشهيدة شيماء الصبّاغ: أنا -كاتب هذه السطور- المقيم في الشمال الإفريقي،

أنا الملتحف بمخمل الليل الجريح..

أنا المتورّط بوجودي في زمن ملتهب..

أعرف أنّ الوجعَ في مصر ربانيّ، كما أعرف أيضا أنّ الصبر هناك رسوليّ، لكنّي لا أملك سوى الحبر، وما من حبر يرقى إلى منصة الدّم. وحتى حين يمور الدّم في جسدي باحثا عن مخرج، فإنّي لا أجد سوى الكتابة-الكتابة عن الشيء تعادل حضوره في الزمن، ووجوده واستمراره في الحياة.

ولأنّ الأمر كذلك فإنّي أصوغ هذه الكلمات علّها تصل أهلك وذويك وكل شرفاء مصر عبر شيفرات الحرية، أو لعلّها تصل إلى كل زنزانة محكمة الإغلاق، وإلى كل معتقل عالي الأسوار، وإلى كل منفى داخل الوطن أو وراء البحار.

وما عليك -أيّها الراحلة عبر الغيوم- إلا أن تحييّ الكلمة العربية التي ذُبحَت وجنّت وجاعت.. ولم تنتحر بعد.

و.. ثمة في الأخير فسحة من أمل في دياجير الليل العربي.

خطوة بإتجاه الطريق المؤدية، خطوة.. خطوتان ومن حقنا جميعا أن نواصل الحلم. ولتحي الحياة.

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.