حينما توقف حلمنا في عمان

عمّان، نوفمبر 2012

غادرنا مطار الملكة علياء الدولي تسبقنا فرحتنا إلى الحافلة الصغيرة التي تنتظرنا في الخارج لتقلّنا الى الفندق. لم نسأل عن طول الطريق الفاصلة بين المطار و وسط العاصمة ولا عن أهمّ الوجهات السياحية التي لا بدّ أن يقصدها زائرو عمّان…كانت الأردن محطّة عبور قصير نحو الضفّة الأخرى حيث ترنو أحلامنا…

لم أفرغ حقيبتي من محتوياتها في الليلة الأولى ولا في اليومين اللذين تليا وصول الوفد التونسي إلى عمّان..لكنّ بقية الوفود كانت تغادر الفندق الواحد تلو الآخر و ظلّت الحقيبة ملأى بثياب لن يقدّر لها أن ترى النور في شوارع "رام الله".

كانت الأنباء تصلنا عن حصول هذا الوفد أو ذاك على تصريح العبور إلى فلسطين فيما نحن قابعون في بهو الفندق ننتظر قدوم أحد موظّفي السفارة الفلسطينية في الأردن حاملا بشارة التصريح.

و بدت كلّ الشهادات التي تحصّلنا عليها في مسيراتنا التعليمية والمهنية أقلّ أهمية من تلك الورقة الصفراء التي يصدرها العدوّ ليمكّنك من العبور إلى أرض يحتلّها كي تراقب عن كثب ممارساته اللاّإنسانية و تلمس بيديك وعدسة كاميراتك بشاعة روحه.

بتوالي ساعات الانتظار وأيامه بدأنا نفقد الأمل تدريجيا في دخول الضفة الغربية لتغطية فعاليات الأسبوع الوطني للشباب، و لم تزد دعابات الأصدقاء حول التناقض بين اسمي والتأثير الذي يضفيه عليهم إلاّ من اتّساع حجم الإحساس بالضيق و العدم…ما الذي نفعله في مدينة نمرّ بها عابرين، فيما مدينة أخرى تسكن منّا القلب و الوجدان؟ كانت "عمّان" تغرينا بالخروج إليها ومعاقرتها تجوالا و سهرا لكنّ القلب قال كلمته للأيام الأولى وأبقانا حبيسي فندق "البال فيو" والانتظار…

ممنوعون من الحلم…

من لم تزره "فلسطين" في أحلامه فلا حلم له… هكذا حدّثت نفسي  وأنا أستمع للسيد "معاذ" يروي قصّته مع فلسطين الساكنة فيه و الممنوعة عنه…انّه بحكم عمله في السفارة الفلسطينية في الأردن، يسهر منذ سنوات على تأمين عبور آلاف الأشخاص إلى الضفة الغربية فيما هو نفسه محروم من ذلك…

ليس معاذ فحسب من قدّر له أن يحيا على بعد كيلومترات من قلبه النابض. فما من حكاية سمعتها في الأردن إلاّ كان بطلها فلسطينيا لاجئا أومقيما يتطلّع إلى أرضه المطلّة من خلف النهر بعين دامعة ويده في جيبه تتحسّس مفتاح بيت جدّه في "رام الله" أو "الخليل" أو "نابلس".

لا أذكر أنني التقيت أردنيين كثرا، فكأنّ القدر أراد أن يعوّضني عن مصابي فلم يجمعني إلاّ بأردنيين من أصول فلسطينية. و كان يحلو لي أن أستمع لهم يحدّثونني عن مدنهم كما لو أنّهم عاشوا فيها وعن أسماء شوارعها كما لو أنهم ما عبروا شوارع غيرها… وعن طعم الكنافة النابلسية كما لو أنّهم ولدوا جميعا بكتيّب يشرح الطريقة الأمثل لصنعها…

كلّ فلسطينيّ هو قطعة من أرض فلسطين غادرت الجسد لكنّها ظلّت موصولة به بحبل سرّي لم يفقه الاحتلال أصول قطعه.فكيف للاحتلال أن يقطع حبل الحلم؟

عمّان أو…محطّة العبور إليها…

لم ينجح الانتظار في إبقائنا حبيسي الفندق أكثر من يومين..فلم تكد الساعات الثماني والأربعون الأولى تمرّ حتى كنّا قد استجبنا لنداء المدينة وجعلنا نمارس عشقها تحت شمس النهار الدافئة و في ليل خريف عمّاني ممطر…

و بين "وسط البلد" و المدرّج الروماني و مقاهي "الراين بوو" ومطاعم "عبدون" الفاخرة، تبدّت عمّان أنثى كاملة البهاء والأناقة تستعرض مفاتنها أمام زوّارها دونما ابتذال، انّما هي تمارس معهم لعبة التخفّي فتارة تطلّ باسمة وأخرى تختفي متحفّظة خلف جبل صغير بحجم عمر الانتظار.

في "عمّان" استعدت عادتي الطفولية في الركض عبر الشوارع و الضحك من القلب والأكل حتى التخمة و السهر حتى النوم على المقعد ، وبدا لي أنّني كنت في حاجة لأن أتخلّى عن سنواتي الثلاث والعشرين لأواجه الخيبة بايجابية بنيّة صغيرة ليلة عيد.

إنّنا نولد بطاقة رهيبة على الصبر والانتظار والايجابية لكنّنا نتعلّم مواجهة المواقف الصعبة بضيق وتبرّم و سلبية كلّما تقدّمنا في العمر أو تقدّمت بنا الخيبات…

و كنت أعجب لأمر هذه المدينة الساحرة التي يأتيها الناس عابرين إلى غيرها فتستقبلهم استقبال العاشقة و تشرّع لهم صدرها العامر بالتاريخ و القداسة…لكنّها على عطائها وكرمها تظلّ تمارس خوفها القلق من كلّ أحد و كلّ شيء، فتعطي و تراقب و تهب و تتجسّس و تعشق و تضيّق الخناق على عشّاقها..

إنّها مدينة الثنائيات بامتياز، و لربّما كانت جغرافيتها السبب في ذلك الغموض الذي يحوطها ..فالأردن مدينة صنيعة موقعها لا صانعته…

الحياة على ضفاف البحر الميّت…

في "عمّان" أدركت أنه ليس أكثر نبلا من أخلاق فلسطيني تشاركه همّ القضية… فقد بقينا أسبوعا كاملا في ضيافة السفارة الفلسطينية في الأردن نقيم بين فندقين فاخرين نأكل و ننام على أسرّة وثيرة و نحلم.. و لم يكف كلّ ذلك الكرم كي يشعر مضيفونا بأنهم أتمّوا معنا واجب الضيافة..

عندما جاء من الضفة من يزفّ إلينا قرار الكيان الصهيوني بالكفّ عن إصدار التصريحات، كانت الدموع تسابق عباراتهم و تغالبها فتغلبها. و بدا كما لو أنهم يستشعرون ذنبا ليسوا هم مرتكبيه…

و في محاولة للاعتذار عن ذنب لم تقترفه أيديهم، أخذنا موظّفو السفارة في رحلة إلى البحر الميت.

لم أتصوّر "بحيرة لوط" بكلّ ذلك البهاء، توقّعتها بحيرة مالحة تسبح في أعماقها جثث متعفّنة للوطيين نزلت عليهم لعنة السماء…لكنّ السماء التي كانت تغلّف أجواء البحر الميت بدت راضية وهي ترنو إلى الضفتين بحنان الأمّ ترعى وليديها على أمل أن يجمعهما لقاء غدا…

حاولت أن أقرأ معالم وجه "جيّاب" الشاب الغزّاوي الوسيم فيما هو يتطلّع عبر البحر إلى أضواء "أريحا" تغازل شمسا تميل نحو الاختباء في مخدعها… هناك، تنتظره أمّ ملهوفة سبقته على أمل أن يلحق بها لتضمّه إلى صدرها الحاني بعد غياب طويل..لكنّ سيف التصريح قطع الأمل وظلّت ضفّتا البحر الميت شاهدا على المأساة…

لو أنّ الزمن توقّف وأنا على ضفاف البحر الميت لما حزنت..لو أنّ ذاكرتي غابت ولم يبق منها سوى تلك اللّحظات لما ندمت.. كنت أخطو بقدميّ المرهقتين فوق مهد التاريخ حيث عبر الأنبياء قبلي وكأنني أقدّم جسدي المتعب بسنوات الحلم قربانا للإله الذي سطّر غضبه خطوط البحر الفاصل بيني و حلمي.

قلبي تسكنه مدائن كلّ مفاتيحها الحلم.

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.